إعلان

كيف تدار المعركة بين الجهاز المناعي وفيروس "كوفيد-19"؟

د. عبدالهادي مصباح

كيف تدار المعركة بين الجهاز المناعي وفيروس "كوفيد-19"؟

د. عبدالهادي مصباح
08:23 م الخميس 09 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لكي نضرب مثلا لكيفية عمل جيش الدفاع المناعي، وكيف تعزف خلاياه هذه السيمفونية المتكاملة الرائعة في تناغم وانسجام كي تدافع عن الجسم، فسوف نصف بشيء من التفصيل رد فعل الجهاز المناعي عندما يصاب الإنسان بفيروس من فيروسات الجهاز التنفسي وأحدثها، وهو فيروس "كورونا المستجد.. كوفيد-19"، الذي قلب موازين الكرة الأرضية، فماذا يحدث داخل جسمنا حينئذ

· الهجوم الفيروسي ومقدمات الإصابة بعدوى فيروس "كوفيد-19"

تنتقل عدوى فيروس "كوفيد-19" من كائن إلى آخر من خلال فتحات الجهاز التنفسي (العين والفم والأنف)، حيث ينتقل عن طريق الرذاذ من شخص إلى آخر، أو من خلال الملامسة، أو تلوث اليدين، ويهاجم الفيروس الخلايا المبطنة للغشاء المخاطي للأنف أو البلعوم أو الحنجرة، وكعادة الفيروسات بشكل عام فإن هذا الفيروس ليس كائناً حياً، ولكنه عبارة عن حامض نووي ريبوزي RNA وغلاف دهني بروتيني يحيط به يحتوي على شوكات تمكنه من الدخول عن طريق مستقبلات على جدار الخلية البشرية التنفسية، فيترك الغلاف الخارجي، ويدخل الحامض النووي؛ ليندمج مع الحامض النووي للخلية البشرية، ويوظف الخلية التي يهاجمها لحسابه لكي يتكاثر بداخلها حتى تنفجر، ويخرج منها العديد من الفيروسات التي تهاجم الخلايا الأخرى وتحاول أن تتكاثر بداخلها، ويحدث هذا أثناء فترة الحضانة (2-14 يوم) وهي في المتوسط من 5-6 أيام، وهي الفترة بين التقاط العدوى، وظهور الأعراض المرضية، وهكذا نجد أن الفيروس يتكاثر ويسبب أعراضًا مختلفة تبدأ من الرشح ثم الدموع ثم السعال مع الإحساس بالتعب الشديد والإجهاد والصداع وجفاف الفم والحلق وارتفاع درجة الحرارة بشكل متفاوت، وقد تجتمع هذه الأعراض أو تتابع أو يظهر بعضها فقط ولا تظهر الأعراض الأخرى، وقد يتمكن الجهاز المناعي القوي من توقيف الفيروس والقضاء عليه في هذه المرحلة، أو تنزل العدوى إلى الرئة، التي إن لم يتم علاجها يتحول الهجوم الفيروسي إلي التهاب رئوي، مع ارتفاع في درجة الحرارة، ويكون الإنسان معدياً للآخرين قبل ظهور الأعراض المرضية بفترة زمنية تقترب 2.5 يوم – 2.8 يوم، وحتى اختفاء الأعراض تماماً .

· جيش المناعة يرد الهجوم بأسلحة متخصصة:

بعد ذلك تحمل الخلايا الأكولة المسماة "ماكروفاج" -وهي نوع من خلايا الدم البيضاء– الفيروس، وتقدمه إلى الخلايا الليمفاوية التائية المساعدة (مايسترو أو قائد الجهاز المناعي )، ثم تقدم الخلايا الأكولة الجزيء المعدي للفيروس والمسمى بـ"الأنتيجين" مصاحبًا للبصمة الجينية لهاHLA للخلايا التائية المساعدة القائد العام لجيش الدفاع الإلهي المسمى بالمناعة، ويكون هذا بمثابة العلم الأحمر الذي يدل على الخطر، أو جهاز الإنذار لكل خلايا الجهاز المناعي بأن هناك كائنًا غريبًا، نوعه كذا، وتركيبه الجيني كذا، والمطلوب: قوات دفاع إضافية للقضاء على هذا الفيروس، وفي هذه الحالة يكون الصراع والسباق على أشده بين الفيروس وخلايا الجهاز المناعي .

· انطلاق قذائف المدفعية :

وحيث إن الخلايا الأكولة (المخابرات) قد أخذت "فيشًا وتشبيهًا للبصمة الوراثية للفيروس، وأبلغت به القيادة العامة لجيش الدفاع الإلهي المسمى بالجهاز المناعي بتفاصيله ومواصفاته ومدى قوته وفاعليته، وتلك القيادة ما هي إلا الخلايا التائية المساعدة T-helper cells- وهي بالمناسبة الهدف الذي يدمره فيروس الإيدز حين يلتقط الإنسان عدواه –وبناءً على ما وصل للقيادة من معلومات فإن القيادة تصدر الأمر إلى الخلايا الليمفاوية البائية B- cells، وهي بمثابة قوات المدفعية المسؤولة عن إفراز الأجسام المضادة التي تتطابق في تركيبها مع تركيب الجزء المعدي في الفيروس "الأنتيجين " بناءً على الفيش والتشبيه الذي تم أخذه لبصمته الجينية عند دخوله للجسم، وتلك الأجسام المضادة هي بمثابة قذائف المدفعية التي تنطلق في جميع الاتجاهات التي يمكن أن يتواجد الفيروس فيها حتى توقف زحفه وتحاول أن تقتله وتقضي عليه .

· الحرب الكيميائية

وفي هذه الأثناء تفرز الخلايا الأكولة "الماكروفاج" وبعض الخلايا الليمفاوية مجموعة من المواد الكيماوية التي تسمي "سيتوكاينز" وهذه المواد بعضها يستخدم لتكملة وظيفة أو نضج بقية خلايا الجهاز المناعي، وبعضها الآخر له تأثير مباشر على الجسم الغريب سواءً كان فيروسًا أو حتى خلايا سرطانية فيوقف نشاطها ويقتلها، ومن أمثلة هذه المواد "إنترليوكين-1"، والذي يعمل كـ"ثرموستات" للجسم فيسبب ارتفاعًا في درجة الحرارة وحمي لكي يقلل من نشاط وتكاثر الفيروس وسرعة انتشاره، وفي نفس الوقت ينبه وينشط بقية خلايا الجهاز المناعي.

وهكذا نجد أن الحمي أو الحرارة التي تصيب الإنسان في حالة إصابته بأي عدوى فيروسية أو بأي عدوى أخرى إنما هي من ضمن وسائل الدفاع التي يستخدمها الجهاز المناعي للدفاع عن الجسم.

وفي بعض الأحيان القليلة تخرج مادة مناعية من مجموعة "سيوكاينز" تسمىIL-6 وتسبب عاصفة مناعية في خلايا الرئة "Cytokine storm" وهي التي تسبب المضاعفات الخطيرة التي تؤدي إلى الموت بسبب الفشل التنفسي وكذلك فشل أعضاء الجسم الداخلية، ويعتقد أن مشكلة هؤلاء المرضي قد لا تكون تورمًا وتصلبًا في أنسجة الرئة مثلما يحدث عندما يصابوا بعدوى الالتهاب الرئوي التقليدي أو النمطي، وبدلاً من ذلك يعتقد الأطباء والباحثون أن المشكلة قد تكمن في شبكة معقدة من الأوعية الدموية في الرئتين، وعادةً عندما تتضرر الرئتان تتقلص الأوعية الدموية التي تحمل الدم عبر الرئتين بحيث يمكن إعادة أكسجتها أو إغلاقها، بحيث يمكن تحويل الدم بعيدًا عن المنطقة التي تضررت إلى منطقة لا تزال تعمل بشكل صحيح، وهذا يحمي الجسم من انخفاض الأكسجين، لذلك فإن بعض مرضى ""COVID-19 لا يمكنهم القيام بذلك، ويظل الدم يتدفق إلى الأجزاء التالفة من الرئتين، ولا يزال الناس يشعرون أنهم يأخذون أنفاسًا جيدة، لكن الأكسجين في الدم ينخفض تمامًا، وبالتالي فإن هؤلاء المرضي الذين يعانون من رئتين طبيعيتين، ومع انخفاض الأكسجين في الدم، قد يكونون عرضة بشكل خاص لإصابة الرئة بشكل حاد، حيث يؤدي الضغط من الهواء الذي يتم دفعه إلى الرئتين إلى إتلاف الحويصلات الهوائية الرقيقة التي يتم من خلالها تبادل الأكسجين مع الدم ما يؤدي إلى الفشل التنفسي .

وبالطبع تحدث خسائر نتيجة لهذه المعركة ويكون هناك ضحايا في ميدان المعركة فتجد أن مادة "جاما إنترفيرون" التي لها تأثير في قتل الفيروسات والخلايا السرطانية تحول الخلايا الأكولة الي مسؤولة النظافة الأولى في ميدان المعركة، حيث تلتهم كل الضحايا التي خلفتها هذه المعركة حتى لا يحدث أن يموت الفيروس، ويتحلل غلافه الخارجي فقط، ويخرج الحامض النووي المكون له من الغلاف ليؤثر على خلية أخرى، فهو بمثابة الحبة التي لو تركت فإنها سوف تنبت وتصبح شجرة كبيرة، لذا فإن الجهاز المناعي يعهد للماكروفاج أو الخلايا الأكولة بتنظيف ميدان المعركة تماما، مثلما يحدث في المعارك الحربية عندما نترك جثث الضحايا فإنها سوف تصيب الأحياء من الجنود بالطاعون والأوبئة مثلما حدث مع نابليون وجيشه في حملته على الشام .

· التفتيش الذاتي

والآن.. هل انتهت المعركة وتخلصنا من فيروس "كوفيد-19" نهائيًا؟ والاجابة بالطبع لا، لأن الفيروسات التي توجد داخل الخلايا لا تستطيع الأجسام المضادة أو قذائف المدفعية الوصول إليها في هذا الوضع والقضاء عليها بشكل نهائي؟ فكيف يمكن الوصول إلى الفيروس في هذا الوضع؟

والإجابة: بعد أن تقضي الأجسام المضادة أو قذائف المدفعية المتخصصة على الفيروس في ميدان المعركة أي في الدم، فإننا نريد أن نتأكد أن جنود الأعداء لا يختفون داخل منازل المدنيين، وبالطبع لا نستطيع أن نقذف منازل المدنيين بالمدافع حتي يخرج الأعداء منها، أو نقضي عليهم وعلى المدنيين من شعبنا معهم فما الحل؟

ونجد أن الحل يكمن في إرسال قوات خاصة ذات مهارات وكفاءة عالية؛ لتفتيش هذه المنازل (خلايا الجسم) التي تختفي فيها بعض قوات العدو (فيروس كورونا)، كيف؟ من خلال تنشيط نوع آخر من الخلايا يسمىNK Cells" " أو الخلايا القاتلة الطبيعية، وذلك من خلال "السيتوكاينز" أو الكيماويات التي سبق الإشارة إليها، وهذه الخلايا هي التي يمكنها الوصول إلى الفيروس أو الخلايا السرطانية داخل الخلية، وهي من أهم الأسلحة في القتال ضد الفيروسات والسرطان، وهي تنشط من خلال الخلايا التائية المساعدة أو القائد العام لقوات جيش المناعة، والذي يعطيها بصمة الفيروس ويتركها تبحث عنه في كل جزء من أجزاء الجسم وتقضي عليه، وتلتهم ما تبقي من الحامض النووي المكون له كما ذكرنا، ويشارك في كل هذه الخطوات قوات المشاة والإمداد والتموين والإعداد، وهي عبارة عن جهاز يسمى الجهاز المكمل أو Complement ويتكون من مجموعة البروتينات تسهل ابتلاع الفيروس والقضاء عليه وتفرز مواد كيماوية تسهل قتله والتخلص منه .

· الحرب تضع أوزارها:

وبعد أن يتم النصر للجهاز المناعي علي قوات فيروس "كوفيد-19" الغازية يستقيل القائد العام لقوات جيش الدفاع المناعي -وهي الخلايا التائية المساعدة- وتسلم القيادة إلى قائد آخر لكي يثبط من نشاط هؤلاء الجنود ويرفع أوزار الحرب ويجمع السلاح منهم حتى ظهور عدو آخر، وهذا القائد هو عبارة عن الخلايا التائية المثبطة CTL والتي ترسل أوامرها على شكل رسائل كيماوية معينة لتثبيط نشاط الجهاز المناعي بعد التخلص من الأعداء، وذلك حتى لا يوجه جنود الجهاز المناعي أسلحتهم إلى بعضهم فيصيبوا بعضهم البعض بإصابات بالغة لا يمكن علاجها، وهذا ما يحدث في حالة أمراض المناعة الذاتية حيث ينشط الجهاز المناعي ويوجه أسلحته ضد أحد أعضاء الجسم نفسه، والسبب أنه أصبح يعتبره غريبًا عنه ويعامله معاملة الغرباء الذين يجب التخلص منهم، ومن أمثلة ذلك: أمراض الروماتويد والتي يهاجم فيها الجهاز المناعي المفاصل في الجسم كله والذئبة الحمراء وبعض أمراض الغدة الدرقية والسكر من النوع الأول المعتمد علي الأنسولين حيث يهاجم الجهاز المناعي خلايا لانجرهانز في البنكرياس ويدمرها فلا تفرز الأنسولين ويصاب الإنسان بمرض السكر وغير ذلك من أمراض المناعة الذاتية .

وهنا نري أن القيادة التي تولت وقت الحرب سلمت القيادة لغيرها بمجرد أن وضعت الحرب أوزارها؛ لأن مهمتها هي القتال فقط، وقتال من؟ الأعداء فقط .

· ذاكرة الجهاز المناعي:

وبعد العدوي نجد أن الخلايا البائية والتائية التي تحمل بصمة الفيروس المعتدي قد تعاونت؛ لتكوين ما يسمى بجيش الخلايا الذاكرة والتي تعلم كل شيء عن تركيب هذا الفيروس وطريقه دخوله وتدميره، وتصبح هذه الخلايا الذاكرة التي تحمل الأجسام المضادة لهذا الفيروس، هي خط الدفاع الأول والسريع الذي يهاجم الفيروس في حالة إذا سولت له نفسه تكرار هذا الهجوم مرة أخرى وذلك يمكن أن يستمر لسنة أو لعدة سنوات أو ربما مدى الحياة، وبينما نجد أن الجهاز المناعي السليم يأخذ حوالي 1-2 أسبوع في صد هجمة فيروس "كوفيد-19" إن لم يكن هناك مضاعفات في الرئة، حيث يمكن أن يستمر العلاج 3-4 أسابيع عندما يصيبه الفيروس لأول مرة، نجد في نفس الوقت أنه في حالة إصابة الإنسان بنفس الفيروس مرة أخرى فإن قوات وقذائف جيش الذاكرة تتولى إحباط الهجوم والقضاء عليه وربما لا يشعر الإنسان على الإطلاق بأنه أصيب بالعدوي مرة أخرى.

وهي نفس فكرة التطعيم ضد الأمراض المختلفة مثل فيروس الإنفلونزا الذي نتناوله كل عام لكي نقي أنفسنا من الإصابة بالعدوي، حيث يغير الفيروس تركيبه الجيني بنسبة قليلة، لكنه يتغير تماماً كل عدة عقود ويسبب وباءً عالمياً؛ لأن الجهاز المناعي غير معتاد على التعامل معه مثلما حدث مع إنفلونزا الطيور والخنازير، ولا يحتفظ له بأي بصمة أو أجسام مضادة للقائه حتى نصل إلى عمل لقاح جديد له.

إعلان

إعلان

إعلان