لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"بنات الليل".. حكايات مما ضبطته الشرطة وعرفته الصحافة

عمار علي حسن

"بنات الليل".. حكايات مما ضبطته الشرطة وعرفته الصحافة

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 19 فبراير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

اعتاد قراء صفحات الحوادث بالجرائد والمجلات نوعين من الكتابة، فإما خبر سريع تكتمل عناصره أو ينقص بعضها من عجلة أو غفلة أو جهالة، وإما قصة طويلة، لا تخلو من إضافات، بعضها خفيف متوافق، وبعضها ثقيل متنافر، يدركه من يحسنون النظر فيما يطالعونه، حتى يمكن أن تغيب حقيقة ما جرى تحت أطمار من الاختلاق، الذي يبرره كاتبه دوما بأنه يستجيب لما يضفي على القصة جاذبية، ويجعلها مستساغة لقارئ مأخوذ بالغرائب والعجائب، أو متيم بالفجائع والفظائع التي تمنحه رعبا، أو تزيد من حذره وهو يواجه عيشا ضاجا بأناس لا يحظى أغلبهم بثقته.

لكن ما جاء به محمد شمروخ في كتابه "بنات الليل .. من أجندة صحفي حوادث" يبدو مختلفا عما ألفه كثيرون، إذ أن ذاتيته وملكته كأديب أصدر من قبل روايتين ومجموعتين قصصيتين، لم تندفع على درب الاختلاق، وإن شئنا قلنا التخييل، إنما وظفها في السرد، وصناعة المفارقة، والقدرة على الاختزال، بما جعل المسكوت عنه في نصه، أو الأبيض وربما الفارغ، أكثر من المملوء والمنطوق به أو بمعنى أدق المكتوب في سطور تشرح كل حكاية على حدة، حتى تكتمل الحكايات راسمة ملمحا مهما من ملامح المجتمع المصري في وقت قصير من عمره المديد.

وسرد شمروخ في حكاياته الواقعية لم يتوسل بالقصة القصيرة، المتعارف عليها بيننا، إنما استخدم تقنية الومضة واللقطة واللحظة التي تنتمي أكثر إلى "القصة القصيرة جدا"، وهو فن بدأ خجولا، ثم أخذ يرسخ أقدامه في دنيا الأدب، متكئَا على أن ثورة الاتصالات تعمل في صالحه، إذ أنه يجاري مقتضيات ومتطلبات الرسائل القصيرة، والآراء المكثفة، والحكايات المتخلصة من كل زوائد وحمولات، بما يتناسب مع مواقع التواصل الاجتماعي، التي تجاري ذائقة جيل جديد متعجل، ومجذوب إلى التفكير الشبكي، وإلى اللمس الخفيف لرقائق إلكترونية الذي يؤدي إلى تدفق الصفحات في لمح البصر.

في هذه الحكايات بعض ما سبق نشره في صحيفة الأهرام، لكن بطريقة أخرى، جامدة باردة، ليست فيها تلك الحرارة التي تجري في أوصال الأدب، بفعل النظرة المختلفة للأديب، التي يبذرها شمروخ هنا، وبما ضن بها أو أخفاها في كتابة أخبار بطريقة تقريرية، فهذا هو المطلوب منه لصفحة الحوادث، التي على من يقف على رأسها أن يلتقط من بين عشرات الجرائم والجنح والمخالفات التي تأتيه يوميا بعضًا ما يراه صالحًا للنشر.

أما ما لم ينشر، أو ما لم يدفع للنشر من الأساس، فهو يشكل المادة الغالبة لهذا الكتاب، الذي يمكن أن نتخذه مثالا لقياس المسافة بين الحكاية الأدبية والقصة الإخبارية، قصرت أم طالت، كانت عن وقائع اشتهرت ونعرفها مثل "حادث الاعتداء على نجيب محفوظ"، و"حادث سرقة الأعضاء التناسلية في المنيا"، أو عن حوادث لم يلتفت إليها أحد، حتى لو نشرت في خبر مقتضب في صحيفة ما.

وهنا يقول المؤلف: "أنا لا أعيد هنا ما نشرته بصيغ أخرى، بل هو مجرد تسجيل ليليات متفرقة من حياتي، عندما كنت محررا للحوادث والقضايا، ولم أسجلها ابتغاء النشر في جريدة أو مجلة، بل سجلتها لنفسي كإنسان انفعل بأجواء ما عايشه في أقسام الشرطة، وفي أوكار الليل التي تتصل بالجريمة مباشرة، أو في المواخير والدروب والحارات".

فكاتب "بنات الليل" يميط اللثام عن كثير من عالم الليل الغريب، المستور خلف نهارات متتابعة لا يعرف أغلب الذين ينبعثون فيها شيئا كثيرا عن هذا العالم المسكون بالفواجع والغرائب والمفارقات والطرائف أيضا، وهو ممتد على صفحات الكتاب من شبكات تحترف الدعارة، إلى داعرات فرادى، تنتمين إلى الطبقات كافة، ومن هذا إلى عالم المخدرات الذي لا يقل غرابة عن سابقه، ثم يعطف على بعض حوادث الإرهاب، لا ليسلط الضوء عليها مباشرة، كما اعتدنا في التغطيات الصحفية العادية، لكنه ينظر إلى الإنساني العميق الذي يقف خلفها في الزوايا المظلمة، لكنه الأدوم بقاء على مدى زمني طويل.

وتتبع هذه العوالم يجعل الحكايات تنتقل بنا، في سلاسة وعفوية، بين أماكن عدة، فمن أقسام الشرطة وحجوزاتها إلى الفنادق والملاهي والمواخير والشقق المفروشة والمقاهي والحوانيت والصيدليات والسجون وأسطح البنايات والأماكن الخربة المهجورة بينها. ومن قلب القاهرة إلى أطرافها المتريفة، ومن الأحياء البسيطة والمتوسطة إلى الفخيمة التي ترفل في غنى أصحابها، وتعطي جرائمهم نكهة مختلفة.

هذه الأماكن ومن قطنوها أو حلوا فيها، أو عبروها في زمن وجيز، تقول لنا بوضوح إن أذرع الجريمة يمكن أن تمتد لتطوق أي أحد، بمن فيهم أولئك الذين يظنون أن بينهم وبينها شم الجبال. فالحكايات تعرض لنا كثيرا عن أولئك الذين انزلقت أقدامهم، في غفلة منهم أو عن وعي وهم مجبرون، إلى عالم الجريمة البشع، والذي يغص أيضا بالمظاليم، إما بفعل ظروف قاسية لم يخترها أي منهم، أو لتواطؤ من رجال التحري والضبط والتحقيق، أو حكم جائز لنقص في الأدلة أو عجلة عن الإنصاف، أو لبراعة ناصبي الفخاخ.

وأمام هذا يبدو راوي الحكايات مندهشا في أغلب الأحيان، لكنه لا يكف عن الرغبة في معرفة المزيد عن المدينة المتوحشة التي يداهمها الليل فتخلع رداءها الذي يراه أغلب الناس، وترتدي رداء آخر، بينما يكون أغلبهم قد آووا إلى فرشهم يغطون في سبات عميق، متوهمين أن كل شيء على ما يرام.

تبدو الحكاية الأولى أشبه بمفتتح لكل ما سيأتي بعده، ويُروى بلغة بسيطة نابضة بالحياة، وضاجة بالوجع والعجب والاشمئزاز والغضب، ففي هذه يقول الكاتب: "عندما تستعد كائنات النهار لك تأوي إلى فراشها، تستعد كائنات أخرى تجعل حياة الليل أكثر صخبا من كل ما في النهار من حركة. لكنها جميعا تخضع لقوانين خاصة تحكم هذا العالم منذ حلول الظلام وحتى مطلع الفجر. ورغم أني أنا، وأنت، وهي، وهو، وهما، وهم، وهن، أولئك الذين يشكلون موجودات ذلك العالم النهاري، إلا أننا مع الليل نرتدي وجوها أخرى، تظل معنا، ربما تكون هي الوجوه الحقيقية، وليست المستعارة، لكن على أي حال، تبدو هي الوجوه التي لا نعرف غيرها حتى آخر الليل".

وتبين الحكايات أن كاتبها قد اقترب من أبطالها، ولم يكتف بمراقبتهم من بعيد، أو الإنصات إلى ما يقوله له ضباط المباحث في أقسام الشرطة أو غيرها، فهناك قصص كثيرة نجد فيها تعبيرات من قبيل: "قالت لي"، و"من خلال حواري معه"، و"شرح لي"، و"تقابلت معه"، و"كل معلوماتي عنها"، و"سألت واحدة"، و"ذات مرة سألته"، و"حدثني عن مشكلته العاطفية الأخيرة"، و"كنت قد ساعدته"، و"تعودت أن تكلمني"، و"رأيته في عيادة طبيب المخ والأعصاب"، و"عندما أراه من بعيد"، و"كنت على موعد"، و"جاءني صوتها"، و"أجبته قائلا"، و"كنت أسير".. إلخ.

وهذا القرب لم يجعل الكاتب في حكم الباحث الذي يتوسل بأداة "الملاحظة بالمشاركة" فحسب، بل أيضا الأديب الذي يكتب عما يعرفه أيضا، ولذا جاء الكتاب خليطًا بين هذا وذاك، مفيدًا لمن يبحث عن حكايات في علم اجتماع الجريمة، ومن يوقن بأن الأدب يمكنه، رغم شروطه الفنية أو الجمالية، أن يكون وثيقة اجتماعية، وكذلك ما يبين أن التوسل بفن القص، الطويل منه والقصير والقصير جدًا، بمكنته أن يمتد إلى ما هو خارج الأشكال الأدبية المعتادة، وهو ما بدأ يشق له طريقًا وسيعة في العقود الأخيرة.

إعلان