لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

شيكابالا.. أسطورة الهزيمة

محمد زكريا

شيكابالا.. أسطورة الهزيمة

12:01 ص الأحد 29 نوفمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - محمد زكريا

يصاب "أوباما" بـ"كورونا" قبل المباراة، فيفرض القدر شيكابالا أساسيًا على النهائي الإفريقي، الخوف يحاوط "الزملكاوية" من اختيار "باتشيكو"، وهو الملك المتوج بالدموع دائمًا وأبدًا، خشي الجمهور أن يهرب من وجهه الفوز كالعادة، فلا مجال لهزيمة وحزن في تلك الليلة يا ألله، بينما التحفَ "الأهلاوية" بالتفاؤل للسبب نفسه، فكيف لـ"المرحوم" أن يصنع فارقًا؟ هكذا عبروا، بينما يتسلم "الأباتشي" الكرة جهة اليمين، يفوت كإبرة في قماش بين لاعبين من الأهلي، يراوغ الثالث بسهولة ومتعة كاملة، ليسدد الكرة بقوة ودقة في نقطة ميتة على يمين الحارس، ويحرز هدف التعادل للزمالك في المباراة، ومفتاح تفوقه لنهايتها، لكن تمجد الكرة الأساطير، تأبى محوها، ولو بفوز مستحق، بفرحة واجبة، يخطف الأهلي هدفًا مباغتًا على عكس سير اللقاء، يخسر الزمالك المباراة والكأس، ويبكي شيكابالا بحرقة، هكذا ختمت الكرة مسيرته في الملاعب.. أسطورة الهزيمة والحزن.


تطارده أينما حل وهرب، هي ألاعيب الكرة، متعتها وقسوتها، عدلها في الخواتيم إن شئت.. إنها الدراما.. الأسطورة.

قبل حوالي 35 عامًا من ليلة النهائي الإفريقي 2020، وُلِد محمود عبدالرازق (شيكابالا) يوم 5 مارس 1985، لعب الكرة بمركز شباب الحصايا في مدينة أسوان بمحافظة مصر الجنوبية، قبل أن يمنحه القدر فرصة أولى لصناعة المجد بين أحضان العاصمة، كان الأسواني الوحيد الذي مرّ من مصفاة القاهرة الضيقة على أصحاب النفوذ والوساطة للعب بمدرسة الموهوبين، ليُظهر موهبة غير معهودة مقارنة بمن في مثل عمره، ويدخل الأهلي والزمالك صراعًا محمومًا على ضمه، لربما اختياره للأهلي كان ضامنًا للحظ، للفوز والألقاب، الحماية الجماهيرية والدعم الإعلامي اللا محدود، لكن الطفل غير المتعلم اختار الزمالك، تدرج في فرق ناشئيه، إلى أن وصل إلى فريقه الأول، وأصبح نجمته الوحيدة، كأنه سيزيف يحمل صخرة من أسفل جبل إلى أعلاه، فإذا وصل بها إلى القمة تدحرجت إلى الوادي، فعاد لرفعها إلى القمة من جديد، وهكذا إلى الأبد، إلى ما لا نهاية، اختار شيكابالا كما سيزيف أن يكون رمزًا للعذاب الأبدي، ويا ليته كان في مكر وخداع الأسطورة الإغريقية!

أحيانًا يكون القدر رحيمًا، يمنحنا الفرص العملية، بعيدًا عن عالم الخرافة والأساطير. في عام 2003 أتت شيكابالا فرصة الاحتراف في أوروبا، ساحة أحلام لشاب ينحدر من أسفل الهرم الطبقي في مصر، كان عمره 19 عامًا عندما لعب لنادي باوك اليوناني، بلاد الإغريق! كأنه أراد أن يحيي الأسطورة القديمة، تألق الفهد الأسمر في اليونان، "تعلم يا ريفالدو بعض الكرة من شيكابالا" هكذا غنت جماهير باوك للمصري من المدرجات، ليصطدم بعائق التزامه بالتجنيد في مصر، والذي فوت عليه فرصة استكمال مشوار الاحتراف، "كنت راجع مصر في إجازة، وقالولي مش هتعرف تسافر تاني" حكى ذلك بلسانه، ليستقر في مصر، ويعاود الأهلي والزمالك نزالًا على اقتناص موهبته المتفردة، وقع شيكابالا بالفعل عقودًا للعب في الأهلي، لكن قوة خفية عرقلت ذاك المسار، الحب ضعف، الانتماء ضعف، تدرب داخل النادي الأحمر مرتديًا قميصًا أبيض، فانتهت علاقته بالنادي الجماهيري الأكثر حصدًا للبطولات، ليرتمي في النهاية بأحضان الزمالك، وينتظم في صفوفه، في وقت بدا فيه أن شمس البطولات تغيب عن الفريق الأبيض، و"خسر كثيرًا.. لأننا فزنا بكل البطولات من دونه" كما رأى مدرب الأهلي التاريخي مانويل جوزيه، لكن ربما فاز بالأسطورة!

انطفأ الزمالك من النجوم والألقاب، بينما بدا لجماهير الفريق أن شيكابالا وحده يكفي، يحمل اللاعب هذا التتويج على رأسه، لكن يَشعُر أنه ظلمه: "أنا اتحطيت في حتة مكنش ينفع أتحط فيها في السن الصغير ده"، الجمهور لا يحركه المنطق على كل حال، هو دائم البحث عن بطل خيالي يعوضه عن هزائم الواقع، أعد "الزملكاوية" شيكابالا المُنقذ والمُخلص، بات في آن واحد المسؤول عن الفوز والهزيمة، في إحدى المباريات كان الزمالك مهزومًا بهدفين، الجمهور غاضب، لكن على من يَصُب غضبه؟ على من منحه الأمل بالتأكيد، تلقى شيكابالا السباب من مدرجات الزمالك! بينما يبكي هو بحرقة في الملعب، أتت له الكرة والدموع في عينيه، لم يركُلْها لأي زميل، كأنه رجل المستحيل أراد أن يحرز الهدف وحده، لكن الواقع لا يعرف إلا لغة المنطق، خرج شيكابالا من الملعب، وهُزم الزمالك بالهدفين.

انتصار وحيد حققه "شيكا"، يحفظه الجمهور عن ظهر قلب، بكى "الأهلاوية" في "مجزرة بورسعيد" وتبرع لضحاياهم، حمل رواية "الزملكاوية" في وقت سنت سكاكين لذبحهم أعقاب "مذبحة الدفاع الجوي"، وتقدم الصفوف في عزائهم رغم المنع وتوزيع الإعلام الاتهامات على داعميهم، مواقف تكلف صاحبها الكثير والكثير، كانت خلفيته سلاحًا مسنونًا دائمًا، يشكه به كل من أحب وجعه، عُير بكفاحه، سبّ في المدرجات بلونه، بفقره الأول، لدرجة أن ذكّره رئيس الزمالك في يوم من الأيام بـ"النومة على الأرض في النادي"، وعدم قدرته على إطعام نفسه، بينما في الملعب كان حادًّا، يجلد المدافعين وحراس المرمى، لا يرحم أبدًا.


"على الطريقة المارادونية" بوصف المذيع التونسي عصام الشوالي، أحرز شيكابالا هدف التعادل للزمالك في النهائي الإفريقي 2020، لكن ربما "على الطريقة المارادونية" أيضًا سارت أسطورة المصري حزينة إلى النهاية.

كان لمارادونا موهبة متفردة، منفلتة، وقف في صف الفقراء والمهمشين، هزم "احتلال الإنجليز لجزر الفوكلاند الأرجنتينية" بـ"يد الله"، أدمن الكوكايين، شُطب من الكرة لتعاطيه المنشطات، بينما اعتبرها ضريبة للنضال ضد "الإمبريالية الأمريكية"، لو تعافى مارادونا كما أراد لمحو كل هذا، لبهتت الأسطورة، لكنها الدراما، خبث الكرة وإنصافها، واجه دييجو العالم ببذاءة لم تنقطع أبدًا، انتقد الكنيسة وطالب ببيع سقوف الفاتيكان الذهبية لصالح الأطفال الفقراء، درب فريقًا مكسيكيًا في دوري الدرجة الثانية يتهم مالكه بصلات مع تجار المخدرات، بكاه العالم بعد وفاته كما لو كان أحد أنبيائه الشجعان، ونعاه الفاتيكان بـ"شاعر كرة القدم".. هكذا يرى "الزملكاوية" أن الكرة اختارت لـ"شيكابالا" سقوطًا إلى الأبد.

شاب أسمر نحيل ينحدر من جنوب بلد يغوص في عالم ثالث يضربه العوز والتهميش وكثيرًا من العنصرية، أهدت الكرة شيكابالا خسارة أخرى لا تستحقها موهبته الفريدة إذا ما قيست بمجتمعه، انكسار جديد لا يتناسب مع هدفه الرائع في النهائي الإفريقي على ملعب عاصمة مزدحمة تكره الموهبة، نهاية أكثر منطقية، عادلة في نظر الجلد المدور، هذه مرحلة لا تستوعب الموهوبين، بينما يشرق وجهها للعاديين، قليلي الموهبة والكفاءة.

أرادت الكرة لو أن تحفظ الرحلة لملك فقد مملكته، لو أن تحنط سيرة "المرحوم" باهتة من الإنجاز في ذاكرة التاريخ، وله أن يلقي بظلاله يومًا ما.. أرادت لـ"شيكابالا" أن يكون أسطورة الهزيمة والحزن.

إعلان