لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الاحتفاء بالوقاحة

ضياء مصطفى

الاحتفاء بالوقاحة

ضياء مصطفى
09:02 م الأحد 12 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


1
يقف، ليلا، يلقي النكات في الصالة التي يعمل بها، ولا يلقي أحد من الجالسين له بالا، وفي الصباح يعمل في محل أسطوانات، وهكذا يتكرر الأمر، يوميا.. ليس هذا ما يحلم به ويصبو إليه، يريد أن يصبح مطربًا كبيرًا وشخصًا مشهورًا، وهذا لن يتحقق بما يفعله، إلى أن وقع على ما رأى أنه كنز كبير لدى أحد المشردين، مخزون كبير من النكات "الإباحية" والخارجة عن المألوف، أغراه بما يملكه من مال، وسجل هذه النكات، ذهب للصالة التي يعمل بها، وألقى بعضًا منها، فإذا بالجمهور يلتفت له ويشجعه.. وكانت البداية.
2
هذا الشخص هو "رودي راي مور" الذي لم يتوقف الأمر لديه عند هذا الحد، بل سجل هذه النكات على أسطوانات، وحين رفضت المحلات بيعها، وقف بسيارته في الشوارع يبيعها، شهرة محدودة حققها، ولم يكن هذا ما يصبو إليه، فإذا به يجد ضالته في السينما، جمع كل ما يملكه واقترض عليه؛ ليصنع فيلمًا، بأقل الإمكانيات، يمكن تشبيهه بأفلام المقاولات لدينا، وجاهد حتى رأى الفيلم النور، ونجح نجاحًا كبيرًا؛ لتتعاقد معه كبرى شركات هوليوود، وتصبح شخصية "Dolemite" التي قدمها، سلسة من الأفلام.
3
احتفت شبكة Netflix به من خلال فيلم طُرح قبل شهور قليلة باسم "Dolemite is my name"، من إخراج كريج برور وكتابة سكوت ألكساندر ولاري كاراسكي، وجسد شخصية "دي مور" الفنان إيدي ميرفي، وترشح الفيلم لجوائز الجولدن جلوب، وحصل على تقييم 7.3، في حين أن فيلم Dolemite الأصلي حاصل على تقييم 5.8 فقط.
4
لماذا نجح هذا الشخص في توصيل ما أراده، وجعل منصة عالمية تحتفي به بعد 45 عامًا، وتنتج عنه فيلمًا، رغم قلة موهبته وضعف ما قدمه فنيًا؟ في اعتقادي هناك سببان لذلك هما: إصراره أولا، ووجود جمهور التف حول ما قدمه ثانيا، فبغض النظر عن تقييم النقاد له وقتها، وبغض النظر عن أهمية المحتوى الذي قدمه، فقد أصبح فنانًا يقدم فنًا، أحبه بعض الجمهور، فهم لم يقيموا ما قدمه أخلاقيًا ولم يحتفوا بـ"الوقاحة"، لكنهم احتفوا بحالة لشخص صنع نجاحًا من لا شيء.
5
الفن وظيفته الترفيه، إبداع يخرج من شخص أو مجموعة فيعجب به قليل أو كثير من الناس، ليس دور الفن تقديم رسائل، أو ضبط إيقاع المجتمع ولا حل مشاكله، ولذا فإن تقييم الفن بحسب ما إذا كان يقدم رسالة أم لا، هو تحميل الفنون بأمور لا تدخل في صميم دورها، ربما يسلط الفن الضوء على مشكلة أو يسهم في حلها، كما في الفيلمين الشهيرين "أريد حلا" و"جعلوني مجرما"، أو يحمل في طياته دعوة إلى شيء نبيل كما في فيلم "الأيدي الناعمة"، لكن إذ لم يقدم صناع هذه الأعمال أفلامهم في قوالب فنية جيدة، فسيتحول الأمر إلى (ما يشبه) مقالا أو ورقة بحثية، وليس فنًا، الفن ليس دوره أن يربى أبناءنا، وإن استقى المجتمع بعض النماذج السلبية في الأعمال وقلدوها، فهذا عيب في المجتمع وليس الفن، خاصة أن الفن يجسد هذه النماذج من الواقع لا يبتكرها، وأغلب الأعمال تقدم عقابًا للشخصيات السلبية مع نهايتها، والأمثلة كثيرة.
6
إذا اتفقنا على ما ذُكر سابقًا، فهذا يقودنا لنقطة أخرى، وهي تقييم العمل الفني، سواء كان أغنية أو فيلمًا أو شعرًا أو رسمًا، حسب جودته الفنية فقط، وفي كل الأحوال سواء قيمه النقاد أو المتخصصون أو زملاء المهنة نفسها حسب مستوى جودته، فهذا لا ينفي عنه كونه فنًا، طالما أن هناك جمهورًا أحبه، الجمهور وحده له مطلق الحرية أن يحب أو يكره، وليس من شأن أحد أن يكون له دور الرقيب عليه، يختار له ما يراه مناسبا.
7
ربما يكون هذا الالتباس عند الجمهور بسبب بعض العاملين في الفنون عامة، الذين يشعرون أن فكرة الترفيه فقط تقلل من قيمتهم وتجعلهم "أراجوزات"، فيبدأون في إطلاق الشعارات الرنانة، وتلقى هذه الشعارات إعجاب بعض الجمهور، فيطلق على هؤلاء الفنانين ألقابا مثل "المحترم"، "صاحب الرسالة"، وغيرها.
8
يقول الفنان محمد صبحي إن الفن رسالة، وإننا نعيش زمن الانحطاط، وهنا السؤال: هل نشاهد فيلم "الشيطانة التي أحبتني" –مثلا- لكونه فيلمًا جيدًا؟ أم لأنه يدعونا للقيام بعمل شريف يفيد المجتمع؟ ولماذا، في هذا الحالة، لا تكون "الأفلام الدينية" على قمة أفضل وأهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية؟ وهل كان فيلم "لوعة الحب" يدعو للخيانة الزوجية؟ وهل دعت مسرحية "مدرسة المشاغبين" للفشل الدراسي؟
9
يحارب، ليس بعض أفراد المجتمع فقط، بل فنانون أيضًا ونقابة الموسيقيين، مطربي المهرجانات أو الأغاني الشعبية، ويصفونها بأنها ليست فنًا، والمثال الأشهر حاليًا أزمة "حمو بيكا" والنقابة، وبعيدًا عن الأخطاء التي ارتكبها مخالفة للقانون، فإن إصرار بيكا على تقديم ما يريده، ووجود جمهور يستمع له، هو ما يجعل من ذلك فنًا، وليس تقييم النقابة أو غيرها.. كم منا سمع من آبائه وأجداده على مر العصور مع كل جيل جديد يخرج من المطربين أن هذا ليس فنًا، ثم يتحول هؤلاء إلى أساطير فنية، وصفوا ما يقدمه عبدالحليم حافظ بأنه ليس فنًا وأصبح أسطورة، ودعنا من هذا، ألم يتحول عدوية وشعبان عبدالرحيم إلى أسطورتين! ما الفارق بينهما وما يقدمه مطربو المهرجانات؟، سمعت تصريحًا لمحمد فؤاد، يقول فيه إن المطرب سيحاسب إذا لم يغنِ للوطن والقيمِ الجميلةِ، فلماذا عاشت "كامننا"؟ ولماذا اندثرت أغانٍ تدعو لكل ما هو جميل له ولغيره؟، ورغم ذلك فإن بعضًا من أغاني المهرجانات تدعو لقيم نبيلة أيضًا، وعلى أي شخص يرى أن ما يحبه هو الفن أو "الفن الجيد" أن يروج له، دون أن يمنع الآخر.
10
إذا نظرنا لأزمة أغنية "سالمونيلا" لتميم يونس، فسنجد أنها نشأت بسبب أن من تعاطى مع الأغنية فكر في رسالتها، واعتبرها داعية للتحرش، وخرج هو –تميم-؛ ليوضح أنه أراد العكس وتسليط الضوء على الشباب الذين لا يقبلون فكرة الرفض، وفي رأيي أنه إذ تم التعامل معها باعتبارها أغنية لطيفة تصلح للرقص أو إحداث حالة من الانبساط فقط، لما حدث ذلك كله؛ لأن المجتمع الذي يستمع لهذه الأغنية، فتزيد لديه نسبة التحرش، هو مجتمع به أزمة بالأساس.
11
الأمثلة في هذا الصدد كثيرة، ولكن نهاية، إن أي أثر أو رسالة أو نصيحة تصل لك من أي عمل فني، سواء قصدها صناعه أم لا، هو شيء لاحق على وظيفته الأساسية وهي الترفيه، وأي تقييم لعمل بشأن جودته، هو أمر لا يدعو للمصادرة على آراء آخرين يرون فيما نراه تافها قمة الإبداع، أو أنه يعبر عما بداخلهم أو يقدم نماذج لحياتهم.

إعلان

إعلان

إعلان