لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الشاعر وقناع الفيلسوف

د. أحمد عمر

الشاعر وقناع الفيلسوف

د. أحمد عبدالعال عمر
09:02 م الأحد 12 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

منذ أن ظهرت في تاريخ الكتابة تقنية القناع، عندما ارتدى أفلاطون في محاوراته الأولى قناع أستاذه سقراط، وراح يتحدث إلى الناس من خلاله، اختلط الأمر على الكثيرين، وتساءلوا:

ما جدوى الكتابة المقنعة؟ وما القاسم المشترك بين الكاتب وصاحب القناع حتى شغف بارتداء وجهه والحديث للناس من خلاله؟ وهل القناع هنا تقنية للتخفي أم لتكريس حضور فكر الكاتب من خلال وجه وفكر غيره؟

أظن أن الكتابة المُقنعة تقنية مهمة لحماية الكاتب من المحاكمة الفكرية في سياقات كثيرة، وهي تقنية تجعله أكثر حرية، وأن العلاقة جدالية بين الكاتب وصاحب القناع؛ فالأول يتأثر بالثاني، وينفعل بفكره وحياته، فيستحضر وجهه ويُعيد تكريس حضوره وفكره، لإيمانه بعظمته أولًا، ولكي يحتمي به ويُظهر قناعاته الخاصة من خلاله ثانيًا.

والشاعر الراحل محمد عفيفي مطر (1935-2010) هو شاعر فيلسوف، شغف بالفلسفة ودرسها، وقام بتدريسها في المدارس الثانوية لأكثر من عشرين عامًا. ومن بين كل المراحل التاريخية للفلسفة، كان له ولع خاص بالفلسفة اليونانية وشخصياتها وقضاياها، وبالروح اليونانية التي أبدعت تلك الفلسفة، وهي الروح التي جسدت فتوة وجسارة وأصالة الإنسان عندما يتحرر من كل القيود، ويصنع فكره ووجوده على غير نموذج سابق.

وليس غريبًا أن نرى محمد عفيفي مطر وهو في بداية العقد الثالث من عمره، وبعد أن درس الفلسفة فأرهقت ذهنه بتاريخها وإشكالياتها، وأرهقت روحه بعذابات البحث عن معنى الحياة وقيمة وغاية الوجود - يتقنع هو بدوره، ويتحدث إلى العالم من خلال وجه الفيلسوف اليوناني أمبيذوقليس الذي يُعد واحدًا من أكثر فلاسفة اليونان تفردًا وجسارة وأصالة في فكره وخياراته ونهاية حياته.

ولكن من هو أمبيذوقليس؟ وما أهم جوانب فلسفته وحياته التي شغف وتأثر بها عفيفي مطر في تلك المرحلة من حياته، حتى قرر أن يجعل وجه قناًعا له، ويتحدث للعالم من خلاله؟!

أمبيذوقليس هو فيلسوف يوناني عاش بالتقريب في الفترة من (490 :435 ق.م). وكغيره من فلاسفة اليونان في تلك المرحلة شُغل بمشكلة البحث في أصل العالم، ومشكلة الكون والفساد.

وقال إن ذلك الأصل هو عناصر أربعة، هي: الماء والنار والهواء والتراب. ثم أضاف إليها عنصرين محركين، هما التنافر أو الكراهية، والعشق أو المحبة، أولهما يُفرق الأشياء، والثاني يجمعها.

كما اعتقد بالأصل الإلهي للنفس الإنسانية، وأن النفوس سقطت إلى الأرض بفعل خطيئة ما، ولكن يمكنها بعد التكفير عن ذنبها عبر ممارسة بعض طقوس التأمل والطهارة - أن تبلغ الخلاص، وتعود للحياة مع الآلهة.

أما عن أبرز جوانب حياته، فتكمن في ادعائه أنه قد صار إلها. ويُقال إنه خرج ذات يوم على الناس ليقول لهم: "أيها الناس، إني أتجول الآن بينكم كإله خالد! ولست بعد الآن بشرًا".

كما يُروى عنه أنه ألقى بنفسه في بركان "أتنا" ليثبت للناس قدراته الخارقة، فيتأكد لهم أنه قد صار من الآلهة المخلدين، فابتلعته حمم البركان، وقذفت للمحيطين بفوهته بحذائه أو خُفه فقط.

هذه أبرز ملامح حياة وفكر أمبيذوقليس وبعض سيرة حياته. ويبقى السؤال هنا: كيف حضر أمبيذوقليس في شعر محمد عفيفي مطر؟ وما دلالة ذلك الحضور؟

يمكن القول إن أمبيذوقليس قد حضر بفكره واسمه في شعر محمد عفيفي مطر، في ديوانه (ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي) الصادر عام 1969، الذي بدأه بذكر شواهد فلسفية مُقتبسة من أمبيذوقليس. ثم استحضر فكره وروحه وخياراته الوجودية في قصيدة (صوت الخيبة) المكتوبة عام 1966، وقصيدة (أترك لكم) المكتوبة أيضًا في ذات العام.

كما حضر أمبيذوقليس لاحقًا بنظريته عن العناصر الأربعة في ديوان محمد عفيفي مطر (رباعية الفرح) الصادر عن دار رياض الريس عام 1990، وقد تكوّن هذا الديوان من أربع قصائد طويلة، تتناول كل واحدة منها أصل من أصول الحياة، التي تكلم عنها أمبيذوقليس في نظريته عن العناصر الأربعة، وهي الماء والنار والهواء والتراب.

وسوف اكتفي هنا برصد حضور أمبيذوقليس وفكره في ديوان عفيفي مطر الذي حمل اسمه، وهو (ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي) فأكد تأثره به وانفعاله بفكره وتجربته، ولهذا جعل نفسه بشكل أو بآخر نظيرًا ومعادلًا حديثًا له في الفكر والعيش والوجود.

ولهذا رأيناه في قصيدة "صوت الخيبة" فيلسوفًا متشائمًا، يرهقه غياب المعنى وعبثية الوجود، فيقول: "دخلت غابة الكون وغابة الفساد/ فعدت دونما عينين/ دخلت غابة الحروف والفواصل المزيفة/ فعدت في يدي جمجمتي المجوفة".

وهذه القصيدة تُجسد حصاد الخيبة، ومرارة المعرفة، وقسوة اكتشاف مفارقة الوجود، وتناقضات الواقع، وفراغ الكلمات، والجوع الذي يسكن القرى والمدن، ليصبح لسان حال شاعرنا الفيلسوف في نهاية القصيدة: "لقد ولدت ميتا/ ونفخت في صورتي الفصول/ وغسلت ملامحي بالجوع والحقول/ فجئتكم لكي أقول/ أو أموت لو ظللت صامتا".

أما قصيدة (أترك لكم)، فتُجسد الحضور الأكثر بروزًا لفلسفة وسيرة وخيارات ونهاية أمبيذوقليس، وحتى لخُفه الذي ألقاه في وجه البشرية، بعد أن قفز عبر فوهة البركان. يقول عفيفي مطر: "أترك لكم خُفي على الرمالِ/ خلاصة المقالِ/ علامة على حوار الكون والفساد/ وشارة من جوهرية الحب الذي يوصل/ والكراهة التي تفصل/ والفجاءة التي تسوقها الدهشة بارتحالي ... أترك في العبور خُفي بين ظلمة العصور/ علامة على فجاءة ارتحالي في الأرض نحو النور".

ويمكن القول في النهاية، إن حضور أمبيذوقليس، لم يغادر محمد عفيفي مطر، منذ أن قرأ عن الرجل، وعرف أزمته الوجودية، وفلسفته وخياراته، وكيف أنهى حياته. وربما بدافع من تأثره به قد اختار لنفسه حياة العزلة والتقشف، والصدق في القول والفعل ونظم الشعر، والدخول في حوار لا متناهٍ مع الذات والعالم في سعي للبحث عن معنى مميز وأصيل للحياة والوجود.

وهذا ما جعل حياته محمد عفيفي مطر فريدة في أصالتها ووثيقة الصلة بطين هذه الأرض، وجعل نصوصه الشعرية عميقة متخمة بالتأملات الفلسفية.

وقد صنع هذا البعد الفلسفي البارز في شعره تميزه في التجربة الإبداعية في مصر والعالم العربي، وجعل شعره قابلًا لما لا نهاية له من القراءة والتأويل.

إعلان