لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

العلاقات المرتبكة بين الآباء والأبناء في "كارلوفي فاري" الرابع والخمسين

د. أمل الجمل

العلاقات المرتبكة بين الآباء والأبناء في "كارلوفي فاري" الرابع والخمسين

د. أمل الجمل
09:00 م الأربعاء 03 يوليو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أثناء تقديمه لأحد مخرجي أفلام المسابقة الرئيسية في القاعة الكبرى بفندق "تيرمال" قال المدير الفني لمهرجان "كارلوفي فاري" كاريل أوش: "أن الصحفيين كثيراً ما يسألونهم قُبيل افتتاح أي دورة جديدة من المهرجان: هل هناك "تيمات" مشتركة بين الأفلام المختارة، ونحن دائما نسبب لهم إحباطًا بردودنا وأجوبتنا عليهم؛ لأنه بالنسبة لنا المهم هو الجودة الفنية وأهمية الفيلم".
رغم التصريح السابق لكاريل أوش، ورغم تفهمي لمقصده واتفاقي معه تماماً في تقييم واختيار الأعمال، وكذلك ربما رغبته في عدم توجيه الصحفيين والنقاد إلى كتابة محددة وتركهم يكتشفون عوالم و"تيمات" الأفلام المشتركة بأنفسهم.
لكن، هذا لا ينفي أن هناك في بعض الأعوام تطغى على السينما العالمية "تيمات" محددة وكأنها هاجس يشغل المبدعين، مثلما حدث في إحدى السنوات، إذ ظهرت أفلام تناقش قضايا العائلة، وبدا واضحاً الانشغال الكبير والرغبة الملحة في تكوين عائلة رغم الكِبر في السن، وكأن العائلة هي الحصن ودرع الأمان. هناك أعوام أخرى ظهرت فيها "تيمة" البحث عن الابن، سواء الابن المفقود، أو الرغبة في إنجاب ابن، وكأن حلم الأبوة هو رغبة دفينة للاحتماء من التدهورات المتلاحقة والوضع اللاإنساني المتفاقم في العالم.

هذا العام، أيضاً، في "كارلوفي فاري" الرابع والخمسين - الممتد من ٢٨ يونيو وحتى ٦ يوليو الجاري -تتكرر "تيمة" واحدة واضحة في أكثر من ثمانية أفلام شاهدتها حتى لحظة كتابة المقال، وهى ارتباك وتوتر العلاقات بين الآباء والأبناء، بأشكال ودرجات متفاوتة، من جنسيات متعددة من حول العالم، من الشرق والغرب، من أمريكا وأوروبا والعالم العربي، فإلى جانب الفيلم السعودي "آخر زيارة" المشارك في مسابقة "شرق الغرب" بالمهرجان، هناك فيلم ألماني رائع ممهور بلغة سينمائية مليون في المائة بعنوان "لارا" ضمن المسابقة، وفيلم "دع النور يمر"، وهو شريط سينمائي آخر من سلوفاكيا ينافس "لارا" بقوة على الكرة الكريستال، إضافة إلى الإشارات القوية بفيلمي "الأب" من بلغاريا واليونان، و"نصف شقيقات" من الإنتاج المشترك بين سلوفينيا وصربيا ومقدونيا، كذلك، "التيمة" الكاملة المتفردة بالفيلم الفرنسي الرومانتيكي الشائك "حب حقيقي" حيث تحاول إحدى الفتيات - بسن المراهقة إلحاق الأذى بوالدها حتي تكاد تقتله؛ لأنه يحاول تقويم سلوكها وإرشادها - والمعروض ضمن برنامج آفاق الذي يضم عملين آخرين عن ذلك الاضطراب في العلاقات الأبوية؛ منها فيلم كيسي أفليك "نور حياتي" والذي اعترف بأنه مستلهم من عجزه أحياناً على التعامل مع أولاده، كذلك الفيلم الألماني "محطمة النظام" وإن كانت قضيته الأساسية معضلة الأطفال ذوي الطاقة الزائدة والعنيفة وعجز المجتمع عن التعامل معهم، لكن أيضاً جزءًا أساسيًا منه خوف وفشل الأهل في احتواء هذا العنف والتخلي عن فلذات أكبادهم. إن الفيلم يقول بوضوح إن وجودهم بين أبويهم يُشكل الخطوة الأولي في العلاج، إذ ينحاز الفيلم لفكرة أن الفتاة البطلة تصبح أهدأ وأكثر استقراراً وتتخلى عن العنف عندما تشعر باقتراب أمها منها، وكذلك عندما تجد في الموظف المسؤول عنها شخصية وحنانًا ورعاية الأب.

"دع النور يمر"

ظاهريا يبدو فيلم "لارا" عن علاقة أم بابنها. تأمل البنية التحتية والشحنة الشعورية بالفيلم يقودنا إلي مفتاح قراءة الشخصية الرئيسية بالعمل "لارا". الحقيقة أن الأم هنا تقمصت دور الأب، أو تنكرت في دور الأب، وتسلحت بسلطة ذكورية مسيطرة جعلت ابنها ينفر منها، يفر منها، إلى درجة أنها حينما تتودد إليه وتبحث عنه وتذهب إليه في بيت جدته ينتابه ارتباك وإحساس بعدم الراحة عندما تقترب من محيطه.

"لارا" هي أم لابن وحيد عازف موسيقي على البيان، معروف من الكثيرين. إنها شخصية متعالية على المجتمع، قادرة على ترويض من حولها، تركت وظيفتها. اليوم ستكمل عامها الستين. تستيقظ على حلم تصعد فيه على كرسي أمام نافذة مرتفعة نرى منها ضبابًا كثيفًا بالخارج. تدور الأحداث في يوم واحد. من الصباح حتى منتصف الليل. خلال ذلك، من لقاءات "لارا" بالآخرين، من تصرفاتها، وصمتها وردود أفعالها تجاه أحاديث الآخرين نتعرف علي جوهر شخصيتها الجامدة الباردة من الخارج المتأججة بالصراع الداخلي غير المعلن.
كانت "لارا" فتاة موهوبة تعشق عزف الموسيقى. لكن طموحها الزائد وخوفها وترددها ورغبتها في تحقيق المثال جعلها تقف مكانها وتدمر موهبتها. المفاجئ بالفيلم تجسيد السيناريو لأمر آخر يتعلق بالأحاسيس التي قد تبدو عدوانية وانتقامية وتدميرية بين "لارا" وابنها. فقد مارست هذا الخوف والتردد معه فغرست فيه عدم الثقة بنفسه وفي عزفه بصورة مرضية. هنا، مثلما احتلت الأم مكان الأب، نجح الأخير في إصلاح القليل من الأمر، ولعب دور المُنقذ من الدمار.

أما الفيلم القادم من سلوفاكيا بعنوان "دع النور يعبر" فهو لا يكتفي بتسليط الضوء على ارتباك تلك العلاقة بين الأب وابنه، بل أبنائه الثلاثة، لكنه يتناول تأثير ذلك بين ثلاثة أجيال، فالأب هنا كان يعاني من المعاملة السيئة من والده لدرجة أنه كان يتمنى له الموت. كان يريد أن يقتله أحياناً، لذلك رغم أنه كوَّن أسرة وأصبح لديه ثلاثة أطفال لكنه يقرر البقاء والعمل في ألمانيا ويزور عائلته كل فترة، بحجة تحسين وضع العائلة، بينما الحقيقة أنه يتفادى والده المسن. عندما يعود نكتشف وجود حواجز وترسانة متينة شُيدت بينه وبين ابنه الأكبر المراهق، وتدريجيا نكتشف مأساة إنسانية تقف على قدمين وتجسيدا لصراع بين ثلاثة أجيال.
"دع النور يمر" أحد أجمل وأرق الأعمال السينمائية التي تناقش العلاقة بين الأبناء والآباء في أكثر من جيل، وتقترح سُبلا لإنجاحها.

إعلان