لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"هري" وسط البلد

محمود الورداني

"هري" وسط البلد

محمود الورداني
09:01 م الخميس 23 مايو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

هدأتْ قليلا الضجة المفتعلة التي اندلعت على الفضاء الافتراضي، بين من يهاجمون وسط البلد ويتهمون مرتاديه من المثقفين والمشتغلين بالفنون بالجهل والادعاء والتقعر والكذب والإباحية، وبين من يدافعون عن هؤلاء المرتادين، ويتهمون خصومهم باتهامات لا تقل فجاجة عن اتهامات السابقين.

كانت البداية تعليق صغير، وسرعان ما تحوّل إلى تريند شارك فيه العشرات، وانقسم إلى أكثر من طرف، واندلعت حرب لا تقل ضراوة عن الحرب التي كانت قد اندلعت منذ قرون بين داحس والغبراء، وتبادلت الأطراف المختلفة كل ما يمكن تخيله من ألفاظ السباب والشتائم.

والواقع أنه من الصعب استيعاب هذا الانحدار والإسفاف و"الهري" الذي انحدرت إليه مواقع التواصل الاجتماعي، بينما المفروض الدفاع عنها وحمايتها باعتبارها فضاء متحررا ومحررا، ومن المحزن أن نتذكر أن تلك المواقع نفسها هي التي لعبت الدور الأساسي في قيام ثورة 25 يناير 2011. ومن المحزن أكثر أن الهري بات هو الأكثر انتشارا وجذبا، فما يكاد جمهور الواقع الافتراضي ينتهي من هريه حتى ينتقل إلى هرية أخرى!

بالطبع يغيب عن هذا الجمهور أبسط قواعد الحوار، وضرورة أن يحترم كل طرف وجهة نظر الطرف الآخر دون أن يعني هذا بالضرورة أن يتخلى عن وجهة نظره.

على أي حال لا أظن أنه من الممكن تجاهل خصوصية وسط البلد ربما منذ تأسيس الجزء "الإسماعيلي" - نسبة للخديوي إسماعيل- من القاهرة، وما زالت تتمتع بتلك الخصوصية. إن دار الأوبرا ودور الصحف والنشر وصالات الغناء والمسارح والجمعيات الأدبية والندوات الشهيرة منذ الندوة التي كان يعقدها جمال الدين الأفغاني وحتى الآن مكانها وسط البلد.

ومنذ ثورة 1919 وحتى الآن، شهدت شوارع وسط البلد القاهرة أوسع وأهم حراك شعبي، وخروج الآلاف من نخبة البلاد وطلابها في مظاهرات صاخبة ضد الاحتلال والاستبداد. بل إن المطبعة السرية لثورة 1919 كانت ولا تزال موجودة في قبو مقهى ريش في وسط البلد حتى وقت قريب. وفي عام 1946 على سبيل المثال كان ميدان التحرير نفسه مركزا لانتفاضة شهيرة سقط خلالها شهداء برصاص الاحتلال، واستمر هذا الحال حتى وقت قريب، بل حتى سنوات قليلة مضت كانت منطقة وسط البلد مركزا متميزا للحراك الشعبي، في شوارع طلعت حرب ومحمد محمود و26 يوليو وغيرها.

خصوصية منطقة وسط البلد لم تأت من فراغ، وكاتب هذه السطور مثلا، شهد كيف تم تأسيس واحدة من أهم المجلات الثقافية المستقلة على مقهى ريش في وسط البلد وهي مجلة "جاليري 68" التي خرج من معطفها أبرز كتاب وفناني جيل الستينيات. ومن مقهى ريش تحديدا خرجت أول مسيرة صامتة في أواخر ستينيات القرن الماضي تنديدا باغتيال الموساد الإسرائيلي لغسان كنفاني أحد قادة المقاومة الفلسطينية، وقادها يوسف إدريس ونجيب سرور ورضوى عاشور وبشير السباعي، وفيما بعد، وبعد إبرام معاهدة كامب ديفيد عام 1978، كان الكاتب الراحل إبراهيم منصور هو المواطن الوحيد الذي أصرّ أن يحمل لافتة يرفض فيها المعاهدة، منطلقا من مقهى ريش في اتجاه شوارع وسط البلد.

ألا يمنح كل هذا وغيره كثير وسط البلد خصوصية ما؟ ألا يجعلها متميزة؟ واحتضانها لكل هذه المواهب والطاقات في كل أشكال الفنون، ألا يجعلها تملك ألقاً حقيقيًا مستندًا إلى خبرة تاريخية طويلة.

وإذا كان بعض أبناء وسط البلد من المثقفين والمشتغلين بالكتابة والفنون غير جديرين بالانتماء إلى تقاليد وسط البلد، وبينهم من يكذب ويتقعر ويدلس وغير أخلاقي، فإن هذا لا يعني مطلقا أن المنطقة بكاملها مرتعا للفساد.

وأخيرا أتمنى أن نكف جميعا عن الهري على الفضاء الافتراضي وكل عام وأنتم بخير...

إعلان

إعلان

إعلان