لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

حكيم أفريقيا الجديد

د. أحمد عمر

حكيم أفريقيا الجديد

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 21 أبريل 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

القادة العظام، والزعماء التاريخيون، والآباء المؤسسون، يولدون من رحم معاناة شعوبهم وأوطانهم، ومن قدرتهم على استيعاب تجارب الماضي والتعلم منها، وتأسيس أنظمة حكم جديدة تحقق المصالحة الوطنية والسلم الاجتماعي، وتحقق حلم أغلبية الشعب في الأمن والاستقرار والحرية والعدال والحياة الكريمة.

والرئيس الرواندي الحالي "بول كاجامي"، هو أحد هؤلاء القادة العظام؛ ففي أعقاب المذابح التي قامت في رواندا عام 1962 ضد " قبيلة التوتسي" التي ينتمي إليها، والتي قام بها أصحاب السلطة من "قبيلة الهوتو"، وأسفرت عن مقتل حوالي 20 إنسانًا، هاجر أكثر من 150 ألف مواطن من "التوتسي" إلى الدول المجاورة، وكان من بينهم أسرة الطفل صاحب الثلاث سنوات "بول كاجامي"، التي هاجرت إلى أوغندا، وأقامت هناك في مخيمات للاجئين لأكثر من عشرين عامًا.

وفي هذا المنفى الاضطراري، كبر الطفل الصغير "بول كاجامي" وهو يسمع عن حكايات المقاتلين الأبطال من "قبيلة التوتسي" الذين قاوموا الحكومة الرواندية، وشنوا هجمات على الحدود ضدها، انطلاقًا من أوغندا خاصة.

وفي أوغندا أيضا، تحالف الروانديون من التوتسي في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، مع زعيم المتمردين في أوغندا " يوري موسيفيني"، الذي نجح في الوصول للحكم عام 1986، وقد كافأ قيادات الروانديين الذين شكلوا ثلث قواته، فعينهم في مناصب مهمة في الدولة، ومنهم كان الضابط الشاب "بول كاجامي" الذي تولى منصب رئيس المخابرات الأوغندية.

وفي عام 1987 تشكلت "الجبهة الوطنية الرواندية" - وكان "بول كاجامي" أحد أهم قيادتها - من أجل توحيد صفوف شعب التوتسي في المنفى، وتنظيم جهودهم في المقاومة، وتهيئة سبل عودتهم إلى بلادهم، وخاصة بعد أن لاحت في الأفق مظاهر سخط الأوغنديين على حضورهم ودورهم في أوغندا.

وفي طريق عودتهم إلى رواندا دخلت الجبهة الوطنية الرواندية بداية من عام 1990 وتحت قيادة "بول كاجامي" في حرب عصابات مريرة مع القوات الحكومية المدعومة من فرنسا خاصة، ولكنها حققت انتصارات كبيرة، ووصلت إلى مشارف العاصمة الرواندية "كيجالي"، ما اضطر الحكومة للدخول معهم في مفاوضات مصالحة وطنية عُقدت في تنزانيا، وانتهت إلى الموافقة على تشكيل حكومة وحدة وطنية يحصل فيها أعضاء الجبهة الوطنية الرواندية على أربعة حقائب وزارية، إضافة إلى دمج ضباط وجنود الجبهة في الجيش الوطني الرواندي.

بالطبع، رفض المتشددون من "شعب الهوتو" ذلك الاتفاق، وضغطوا على الرئيس الرواندي "جوفينال هبياريمانا" لكي لا يقوم بتنفيذه، وتعطيل تشكيل الحكومة؛ لأنهم كانوا يرون أن مقاتلي الجبهة الوطنية الرواندية، مقاتلون أجانب يجب قتالهم والقضاء عليهم؛ ولهذا قام هؤلاء المتشددون – ربما - بتنفيذ عملية إسقاط طائرة الرئيس، التي أدت إلى وفاته في السادس من أبريل عنا 1994.

وبالتالي إسقاط وإفشال مخططات المصالحة الوطنية، ليتجدد القتال مع الجبهة الوطنية الرواندية من جديد، ولتتجدد أعمال العنف الذي قامت به قوات الحرس الرئاسي الرواندي، والميليشيات المتطرفة التابعة لها ضد "شعب التوتسي"، وليقوموا بأكبر عملية إبادة جماعية في التاريخ ضد السكان العزل من التوتسي، حيث أدت بعد ثلاثة شهور إلى مقتل حوالي مليون شخصٍ، واغتصاب حوالي ربع مليون امرأة.

وقد دفع تطور الأحداث المأساوي هذا قوات الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة "بول كاجامي" إلى التقدم بقواتها مرة أخرى إلى العاصمة كيجالي، لوقف أعمال العنف والإبادة، حتى نجحوا في الاستيلاء عليها في الرابع من يوليو عام 1994، ليصبح "بول كاجامي" الضابط الشاب صاحب الستة والثلاثين عامًا، الحاكم الفعلي المسؤول عن بلد بكل هذا الدمار والخراب، بلد يسكنه الموت في كل مكان، وتتأجج النفوس فيه بميراث الدم والثأر.

ومع ذلك فقد نجح "بول كاجامي" الذي صار وزيرا للدفاع عام 1994، ثم رئيسًا للدولة عام 2000، بحكمة وعبقرية سياسية منقطعة النظير في القضاء على ميراث الدم، وتوحيد الروانديين، وتحقيق المصالحة الوطنية، ومواجهة المؤامرات الخارجية، وإعادة بناء كل شيء من جديد.

وبالتالي وضع رواندا في أقل من عقدين من الزمان على طريق الأمن والسلم والاستقرار والتقدم والنهضة، ليصبح اليوم موضع محبة وتقدير أبناء شعبه من كل القبائل والأعراق، وأبًا مؤسسًا لرواندا الحديثة، وموضع احترام العالم الخارجي، وأحد حكماء وزعماء أفريقيا الوطنيين المخلصين.

ولهذا فإن اسم هذا العسكري والسياسي الرواندي القدير "بول كاجامي" سوف يُكتب في تاريخ أفريقيا بحروف من نور إلى جانب زعمائها وحكمائها الكبار السابقين، من أمثال الزعيم المصري جمال عبدالناصر، والجزائري أحمد بن بيلا، والغيني سيكوتوري، والغاني نكروما، والسنغالي ليوبولد سيدار سنجور.

إعلان