لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

 الزهرة التي تفتحت قبل مائة عام

د. جمال عبد الجواد

الزهرة التي تفتحت قبل مائة عام

د. جمال عبد الجواد
09:07 م الجمعة 08 مارس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

اليوم هو الثامن من مارس، وفي مثل هذا اليوم من مائة عام كان المصريون على موعد مع التاريخ، فكانوا يستعدون لدخول التاريخ كشعب وأمة لها هوية وقومية، بعد أن دخله الملوك والكهنة المصريين منذ آلاف السنين.

كان سعد زغلول مع عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي قد التقوا بالسير رونالد وينجت، المندوب السامي البريطاني، في الثالث عشر من نوفمبر مطالبين بالاستقلال. راوغ السير وينجت وفد المصريين، وشبه المصريين بالطفل، وشكك في قدرتهم على إدارة وحكم أنفسهم مستقلين عن القوى الأجنبية؛ وتعجب من المصريين الذين رضوا أن يكونوا عبيدا للأتراك ثم يرفضون أن يكونوا عبيدا للإنجليز. لم يلاحظ المندوب السامي البريطاني أن زمن العبودية قد ولى، وأن المصريين أصبحوا يرفضون العبودية في كل أشكالها، فيما كان المستعمرون يريدونهم الاكتفاء بالمفاضلة بين عبودية وأخرى.

شكك السير وينجت في حق سعد وزميليه في التحدث باسم الأمة المصرية، مع أن الثلاثة كانوا أعضاء منتخبين في الجمعية التشريعية، التي كان سعد وكيلها. تفتق ذهن الزعماء الثلاثة على جمع توقيعات المصريين على توكيل ينص على حق الزعماء في التحدث باسم الأمة، وهو التوكيل الذي وقع عليه مئات الألوف من المصريين. لقد دخلنا اليوم عصر الشبكات، حيث يستطيع أي فرد الوصول إلى مئات الألوف من الناس عبر شبكة الإنترنت. لكن هذه مجرد شبكات وعلاقة افتراضية، أما ما حدث قبل مائة عام في عملية جمع التوكيلات فإنها عملية إنشاء وتنشيط شبكات من بشر حقيقيين، يطبعون التوكيلات؛ ويسافرون بين القرى والبلدات في زمن عز فيه السفر؛ يتحدثون للناس؛ يحكون لهم حكاية مصر والاحتلال والوفد، ويجمعون توقيعاتهم على الصيغة الموحدة المتفق عليها للتوكيل، وعبر هذه الشبكات غير الافتراضية كان ميلاد الأمة المصرية.

انزعج الانجليز من حماس الناس لتوقيع التوكيلات، وحاولوا وقف عملية جمع التوقيعات، ووضعوا يدهم على الكثير من التوكيلات الموقعة وقاموا بإحراقها؛ غير أن كل هذا لم يوقف قطار القومية المصرية الذي كان قد بدأ رحلته بالفعل؛ ومع تزايد إصرار الشعب على المقاومة، أصبح موقف سعد ورفاقه أكثر قوة وصلابة. راح سعد يلقي خطبا حماسية، طبعها الناس وتناقلوها لأن الصحف الموضوعة تحت الرقابة لم تستطع نشرها. سمع الناس وقرأوا لأول مرة زعيما كبيرا بوزن سعد باشا زغلول يطالب بإلغاء الحماية واستقلال مصر؛ فلم يعد الاستقلال كلاما حماسيا يأتي من شبان متهورين من أتباع الشاب الراحل مصطفى كامل، وإنما كلاما يأتي من شيوخ متمرسين لم يعتد منهم الناس سوى الكلام الموزون والخطوات المحسوبة.

في السادس من مارس وجه قائد القوات البريطانية في مصر إنذارا لسعد ورفاقه بالتوقف عن المطالبة بالاستقلال، لكن الوفد واصل الضغط على الاحتلال. أعيت الانجليز الحيل في التعامل مع سعد ورفاقه، وظنوا أن مشكلتهم في مصر تتلخص في هذه القلة من الشيوخ المشاغبين الذين أصابهم التهور، فقاموا في الثامن من مارس 1919 بالقبض على سعد زغلول وثلاثة من أعضاء الوفد، هم محمد محمود وإسماعيل صدقي وحمد الباسل؛ ونقلوهم إلى بورسعيد، ومن هناك تم نفيهم في اليوم التالي إلى مالطا.

لم يفهم البريطانيون أن حماسة الشيوخ النادرة ليست سوى علامة على نار كبرى تشتعل تحت الرماد؛ وفيما كان الزعماء المنفيون يصعدون على ظهر السفينة إلى منفاهم في مالطة يوم التاسع من مارس، كانت أول مظاهرة شعبية تخرج رافضة الاحتلال وتطالب بالاستقلال، لتبدأ بذلك أحداث الثورة القومية التي تواصلت لعدة شهور تالية، لتولد خلالها مصر أمة مكتملة النضوج، رغم أن الاستقلال التام قد تأخر لعدة سنوات بعد ذلك.

إعلان