لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الرمز الأنثوي في الشعر الصوفي الأندلسي

د. أمــل الجمل

الرمز الأنثوي في الشعر الصوفي الأندلسي

د. أمل الجمل
02:12 م الأحد 08 ديسمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

التقيته للمرة الأولى تقريبا في عام ٢٠٠٥ عندما كنت أحد أعضاء مؤسسة "كادر" التي كان وراء فكرتها، وتكوين فريقها الناقد السينمائي والمؤرخ الراحل سمير فريد. كنا لم نعثر بعد على مكان يُصبح مقراً للمؤسسة، فصرنا نجتمع بشكل مؤقت بالمجلس الأعلى للثقافة. في أحد الأيام التقيته، كان في زيارة لمصر وجاء للقاء صديقيه سمير فريد ومنى غويبة في دار الأوبرا التي كانت تشهد حدثاً ثقافياً في ذلك اليوم.

لم أنس أبدا الأسلوب الذي استقبلاه به، والود والتقدير والحب العميق في التعامل معه. لاحقاً حكت لي منى سريعاً ملامح عن شخصيته، وأنهما كانا زملاء بالعمل في صندوق التنمية الثقافية لسنوات، وصارا أصدقاء عمر.

ولم ألتق به مجدداً على مدار نحو اثني عشر عاماً، فقط اكتشفته ذات مرة على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، ولاحظت أنه كان بين حين وآخر يعلق على ما أتشاركه من مقالات أو «بوستات» بأسلوب دمث محمل بروح مرحة ساخرة.

الأنثى والصوفية

قبل أن ينتهي مهرجان القاهرة السينمائي بيومين وقفت على أحد الأرصفة القريبة من شباك التذاكر أُعيد تأمل الأفلام التي اخترتها وتقاطعت مع بعضها في زمن العرض. كنت أفاضل بينهم، وبينما أنا غارقة في الحملقة في برنامج العروض على شاشة الموبايل سمعته يقول بتساؤل: «د. أمــل الجمل؟»

بداية لا بد أن أعترف أن ذاكرتي فيما يخص الأسماء سمكية بامتياز، رفعت رأسي وعندما لمحته شعرت بالحيرة لكني أجبت: «صحيح.. لكن مَنْ حضرتك؟» فعرفني بنفسه: «أنا أحمد الجعفري.». فتبادلنا التحيات ودار بيننا نقاش في أشياء مختلفة اختتمه بدعوتي لحضور مناقشة رسالة الدكتوراة لزوجته الأستاذة همت مصطفي كامل، والتي تحمل عنوان «توظيف الرمز الأنثوي في الشعر الصوفي الأندلسي».

العنوان لافت ومثير للاهتمام، خصوصاً عندما يجتمع لفظ «الأنثى» بكل دلالته مع فن الشعر الصوفي. فقررت الحضور. لكن عندما أخبرني أن المناقشة ستتم في كلية دار العلوم شيء ما بداخلي اختلف.

كلية الراقصات

ذكرياتي غير جيدة بالمرة مع هذه الكلية، فعندما كنت أدرس في كلية الإعلام بجامعة القاهرة خصوصاً في السنة الثالثة والرابعة انتقلنا إلى المبني الجديد بحرم الجامعة، والذي تصادف أنه مواجه لمبني كلية دار العلوم، وكان الشائع أنهم يصفون كليتنا بأنها كلية «الراقصات». وكان شبابهم عندما يرون فتيات الإعلام جالسات على الحشائش أو على سلم الكلية، أو يتحدثن إلى زملائهن كان طلاب دار العلوم يمرون عليهم كأنهم يلعبون دور حُراس الفضيلة، ثم ينطقون بكلمات سخيفة بصوت مرتفع بهدف الإهانة. وذات مرة ضبط رجال الأمن أحد طلاب كليتهم وهو يتسلل إلى داخل كلية الإعلام.

أحياناً أتساءل: إذا كانت الصدفة جعلت مبنى الكليتين متقاربين، بل متواجهين في حرم الجامعة، فهل الصدفة أيضاً جعلت المبني السكني لطالبات إعلام، مُحاصرا بين اثنين من المباني التي كانت تخص طالبات دار العلوم؟ هل تم ذلك عن عمد؟ ولماذا ظل مبنى إقامة طالبات الطب وطالبات الاقتصاد والعلوم السياسية مثلاً بعيدا عن كل ذلك؟

خناقة بين بنات المدينة

المهم، طبعاً، بسهولة يمكن معرفة مصدر ترويج الشائعة، فبنات دار العلوم بالمدينة، كن يقمن الصلوات في مواعيد الأذان، وأغلبها صلاة جماعة، بصوت مرتفع. وكانت طالبات كلية الإعلام كل يوم خميس على موعد مع حفلة رقص فترتفع أصوات الأغاني المبهجة، للترفيه عن النفس، وعدم منح الاكتئاب الفرصة للتسلسل إلى الروح خصوصاً مع وضعية الاغتراب عن الأهل التي كانت تمتد أحيانا لشهور التيرم بأكمله.

الحقيقة أن صوت الكاسيت لم يكن ليخفت في مبنى كلية الإعلام. كان هذا شيئًا يُميزه ويصنع حالة من البهجة غير متكررة في أي مبني آخر، خصوصاً أغاني عمرو دياب، ومحمد منير، ووردة الجزائرية، وكان من بين البنات مَنْ تمتلك صوتاً بديعاً في تقليد وردة فتظل تُعلي صوتها بالغُنا طالما كانت بالمبنى، ليلاً ونهاراً. وكثيراً ما وقعت مناوشات بين الطرفين، فطالبات دار العلوم وكانت أغلبهن منتقبات كن يزعقن مراراً وتكراًراً كي يتم تخفيض صوت الكاسيت، وتلك الأغاني التي سوف تُدخلنا جهنم وتحرقنا بنارها.

في المدرج المخصص لمناقشة الدكتوراة بكلية دار العلوم تعرفت إلى طالبة دراسات عليا جاءت لتستفيد من المشرف على الرسالة؛ لأن رسالتها للماجستير ستكون معه. كانت سيدة خمسينية متأنقة بشياكة، ترتدي بنطالا وبلوزة، شعرها ينسدل بشكل لطيف على كتفيها، ووجها مشرق بنور الابتسامة. تعارفنا وبدأ الحديث ينساب بيننا. ظللت أسألها وتجيبني بود وحماس تلقائي.

أن تخلع الحجاب بدار العلوم

عرفت أنها التحقت للدراسة بكلية دار العلوم وهي محجبة وترتدي عباءة واسعة جداً، وتخرجت فيها، وقد عادت إلى طبيعتها الأولى. عبرتُ عن دهشتي: «معقولة؟ كنت أتخيل أن العكس هو ما كان سيحدث». فتجيبني: «الكلية هنا فتحت مداركي، وجلعتني أقرأ في مجالات مختلفة، في الفقه والتفسير، واللغة، والآداب، وعلوم الشريعة… المناهج هنا جعلت رؤيتي للحجاب تختلف». وظلت تتحدث عن تأثير الكلية على شخصيتها وأفكارها بنوع من العشق.

أصابتني الدهشة والإعجاب في آن واحد، خصوصاً عندما بدأ المشرف على الرسالة أ. د. أيمن محمد علي ميدان - الأستاذ بقسم الدراسات الأدبية بالكلية - يتحدث بتقدير واحترام عن شخصية همت مصطفي، وموضوع بحثها، لدرجة تجعل المستمع يحب الكلية ويتمنى أن يكون طالباً يتلقى العلم على يد هذا الدكتور المتواضع رغم علمه الغزير، ثم أكد نفس الشعور أ. د. محمد علي سلامة، الأستاذ بكلية الآداب جامعة حلوان، والذي كانت إحدى دراساته عن ابن عربي، فتجلى في الحديث وصرنا محلقين معه نتابع أفكار ابن عربي ورؤيته الفلسفية العميقة والبديعة عن المرأة والرمز الأنثوي.

إشكالية البحث الجميل

أما رسالة همت فيمكن تلخيص إشكاليتها في التالي: أن التجربة الصوفية هي بحث عن الأسرار الإلهية في الكون، والنفس، والروح، والقلب. ورغم أنها تجربة غير حسية فإنها لم تجد أمامها سوى الرموز الحسية للتعبير عن نفسها، ما أفسح مجالا للتأويل، فتعدد معنى الرمز الواحد؛ ليصير وكأنه رمز مفتوح على احتمالات لا نهائية من المعاني.

لذلك، جدد الصوفيون الرمز، وجعلوا منه طريقة فُضلى في التعبير، حتى جاءت الأنثى لتكون أهم هذه الرموز الدنيوية التي تُعبر عن العشق الإلهي. من هنا، تطرح الباحثة تساؤلات عدة: هل ولَّد رمز الأنثى عاطفة جديدة في الشعر والأدب الصوفي؟ هل باستخدام الأنثى كرمز يكون الصوفيون قد ارتقوا من الحسي إلى الروحي، ومن الأرضي إلى السماوي؟ هل استطاع الرمز الأنثوي استيعاب التجربة الصوفية بكل ما فيها من حكمة عرفانية وتعبير عن العلو ذاته؟ هل الرمز الأنثوي ارتقى وتطور منذ الإرهاصات الأولى للتوظيف حتى نهاية مرحلة الدراسة في الأندلس؟

وفي سعيها للإجابة عن التساؤلات السابقة تابعت همت مصطفي تجربة رمزية الأنثى في جوانبها الفنية والموضوعية، وكذلك الوقوف على أبعادها الشعرية، واستجلاء قيمتها الفكرية في الشعر الصوفي.

من أكثر فصول الدراسة جمالاً وأكثرها متعة الفصلان الثالث والرابع، فأحدهما يتناول الرمز الأنثوي في شعر الحب الإلهي، وكذلك في المدائح النبوية. ثم تتناول همت رموزاً أخرى مرتبطة بالرمز الأنثوي ومنها مثلاً: الرمز الغزلي، والخمري في الشعر الصوفي.

أما الفصل الرابع فيتناول ابن عربي ورؤيته الصوفية والرمزية العميقة حيث أكدت الباحثة على تميز دلالة الرمز والمرأة في فلسفته الصوفية، فقد وصل رمز الأنثى عنده قمة نضجه من خلال توغله في رؤيته الفلسفية الصوفية حول الوجود، والكون، ونظرية الخلق والتجلي. واُختتمت المناقشة بحصول همت مصطفى كامل، على درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى وتوصية بالطبع، وهي رسالة أتمنى أن تُنشر بالهيئة العامة للكتاب؛ لتصدر منها طبعة بسعر معقول يجعلها في متناول عامة الشعب ليقرأوا فيستمتعوا، ويرتقوا من الحسي إلى الروحي، ومن الأرضي إلى السماوي.

إعلان