لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الوجود الأصيل والوجود المزيف.. سؤال وجودي وإجابة تراثية

طارق أبو العينين

الوجود الأصيل والوجود المزيف.. سؤال وجودي وإجابة تراثية

طارق أبو العينين
09:01 م الأحد 22 ديسمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يُعد الاهتمام بالجانب النفسي للإنسان إحدى السمات الأساسية للفلسفة الوجودية، فبعد أن كان اهتمام الفلسفة الحديثة حتى نهاية القرن التاسع عشر مُنصباً على موضوعات وقضايا ذات طابع سياسي وفكري مثل: العدالة الاجتماعية والحرية والتنوير أحدثت الفلسفة الوجودية نقلة مهمة ونوعيه عبر اهتمامها بدراسة النفس البشرية نوازعها وطبائعها وتفاعلاتها النفسية مع ما يحدث من وقائع.

ولذلك فإن القضايا التي تثيرها والمفاهيم التي تُعرفها تلك الفلسفة رغم نخبويتها الظاهرية الخادعة هي قضايا ومفاهيم شديدة الاتصال بواقع الناس اليومي المُعاش؛ لأنها تناقش ببساطة حوار الإنسان اليومي مع ذاته وكيفية تحقيقه لها على أرض الواقع ....

وفي مقدمة تلك القضايا والمفاهيم مفهوم الوجود، وهنا يُقسم الفيلسوف الوجودي الألماني البارز مارتن هايدجر الوجود الإنساني إلى نوعين؛ وجود أصيل ووجود زائف، ومحور هذا التقسيم هو تعاطى الإنسان نفسه مع ما يعتريه من قلق وتساؤلات بشأن ماهية وجوده وهدفه من تلك الحياة، فأصحاب الوجود الأصيل -وهم النخبة- يتعاطون إيجابيًا مع هذا القلق بقدر من التفكير العميق والعزلة اللتين تدفعانهما إلى معرفة ذواتهم وتأكيد وجودهم، ومن ثم منح المعنى والمعقولية لحياة بلا معنى، ووجودًا بلا معقولية حسب اعتقاد هايدجر، أما النوع الثاني من الوجود، فهو الوجود الزائف، وهو وجود قائم على الهروب من هذا القلق الوجودي، وتجاهل الإنسان لضرورة معرفة حقيقة ذاته، ومن ثم تحديد أهدافها اللازمة لتحقيقها وتعبيرها عن وجودها وكينونتها، وهى مرحلة يسميها مارتن هايدجر "مرحلة السقوط" التي تُبلور هذا الوجود الزائف عبر انغماس الإنسان في عالم الوجود الجماعي ونسيان ذاته، وتفرغه للثرثرة اليومية والفضول بالتسلية بشؤون الآخرين والتدخل في خصوصياتهم، ومن ثم إيهام النفس بأنها تحيا حياة حقيقية غير زائفة، فيدخل بذلك هذا الإنسان إلى نفق مظلم يسميه هايدجر "الوجود المُبتذل" الذى يهرب فيه من القلق الوجودي، الذى يدفعه للبحث عن ذاته ومعرفة حقائقها ومكنوناتها إلى الانغماس في تلك الحياة اليومية الروتينية الفارغة من أي مضمون أو هدف...

فرغم هذا الإسهام الذى قدمته الفلسفة الوجودية ببلورة معنى الوجود الأصيل، والتفرقة بينه وبين الوجود الزائف فإن ثقافتنا الإسلامية قد قدمت عبر تراثها الفكري والأخلاقي جواباً أفضل وأدق عن ذلك السؤال الوجودي المتعلق بتلك الذات الإنسانية الأصيلة وكيفية تحقيقها لوجودها عبر آلية أخلاقية اسمها "تزكية النفس"، فالقرآن الكريم قد تعرض لتلك الجدلية التي تحدث عنها هايدجر بين معرفة الإنسان لنفسه حق المعرفة وبين سقوطه في غيابات جُب الابتذال الوجودي بقوله تعالي في سورة الشمس: بسم الله الرحمن الرحيم "ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها (8) قد أفلح من زكاها (9) وقد خاب من دساها". صدق الله العظيم، إلا أن الفارق بين تلك الرؤية الإسلامية ورؤية هايدجر يكمن في افتراض هايدجر بأن بحث الإنسان عن ذاته الأصيلة نابعًا من إيمانه العميق بعدم وجود معنى للحياة أو معقولية للوجود، ومن هنا تكون تلك الذات الأصيلة مقابلاً أو نقيضًا لتلك العدمية، وذلك بعكس ثقافتنا الإسلامية التي يمثل فيها مفهوم الألوهية الحقيقة الوجودية الأولي والمركزية التي تدور في فلكها بقية حقائق الكون، ومن ثم فإن تلك العدمية ليست نابعة من غياب معقولية الوجود أو معنى الحياة، بقدر ما هي نابعة من بُعد الإنسان وانفصاله عن تلك الحقيقة الوجودية الأولى، ومن ثم فإن تحقيق الإنسان لوجوده الأصيل بفهم نفسه وعلاقتها بحقائق الكون من حوله بات مرهونًا بقدر اتصاله بتلك الحقيقة الأولى والنهل من فيض أنوارها ومعارفها...

لذلك نجد أن تراثنا العربي والإسلامي مليء باجتهادات فكرية وأدبية تقربنا من تلك الآلية الأخلاقية، وهي تزكية النفس، ولعل رسائل الجاحظ -ذلك الأديب العباسي العظيم، والتي جمع بعضها الأديب والمفكر المصري الكبير الراحل طه حسين في كتابه ((نفوس للبيع))- تقربنا من أسلوب وطريقة خلاص الإنسان من ذلك الوجود المزيف وبناء وتكوين وجوده الأصيل في نفس الوقت، فالإنسان حسبما قال طه حسين في كتابه مخيرٌ بين أن يستبقي ما نشأ عليه من خلق وما فُطر عليه من مزاج، ممتنعًا عن الغواية ومقاومًا للإثم؛ ليصون بذلك نفسه من أن تكون سلعة معروضة للبيع والشراء، ويعصم كذلك أخلاقه من أن تكون موضوعًا للمساومة وبين أن يدور مع الزمن ويساير الحياة، ومن ثم يعرض نفسه للبيع حين تسنح الفرصة لذلك، ويخطف اللذة حين تساق إليه، ولأن طه حسين قد اختار لنفسه ولقارئه الاختيار الأول بتزكية النفس كي لا تكون نفسًا للبيع، وهو اختيار صعب وعسير ويحتاج إلى قدر كبير من الجلد وجهاد النفس لما يتطلبه من تضحية بمنافع ومباهج الحياة، التي قد يقتضي الحصول عليها إخلالاً بالقيم والأخلاقيات، التي تفرضها الفطرة الإنسانية فإنه قد استعان على ذلك برسائل الجاحظ، التي تستلهم بشكل مباشر النص القرآني ومنهجه في تزكية النفس عبر عدة وسائل، منها: شكر الإنسان لربه وقت النعمة، وصبره على الحرمان والألم وقت البلاء، ومنها أيضاً وجوب قيامه بدوره الأخلاقي بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ومنها الاهتداء إلى الرشد بتجنب الوشاية والوشاة، واجتناب شر الغرور مع الحث على التواضع فالأيام دول بين الناس، والنفس أمارة بالسوء، ومن خلال ذلك لا يكون طلب الدنيا مانعًا لأن يهتدى الإنسان إلى معرفة ربه، ومن ثم معرفة نفسه وحقائقها الوجودية، وبذلك يمكنه الاندماج في الحياة، ونيل مطالبه المشروعة منها دون التخلي عن فطرته السليمة وقيمه الأخلاقية، أو تبنى رؤية عدمية تعزله عن الواقع وتحجب عنه حقيقة كينونته وطبيعة موقفة من هذا العالم، فيصبح وفقاً لتلك الرؤية الإيمانية وجوده أصيلاً ولا يصير أبدًا نفسًا للبيع ....

إعلان