لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

 مارادونا "أعظم كذاب في العالم" في بانوراما الفيلم الأوروبي

د. أمــل الجمل

مارادونا "أعظم كذاب في العالم" في بانوراما الفيلم الأوروبي

د. أمل الجمل
09:00 م السبت 09 نوفمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"كأن الشخص الذي كنت أصنع عنه فيلمي لم يعد موجودًا الآن. فإذا كان لدينا طيف من دييجو في أقصى اليسار، ومارادونا في أقصى اليمين، فأعتقد أن المسافة بينهما صارت بعيدة جدًا لدرجة أنه لم يتبق شيء من دييجو".
إنها كلمات المخرج البريطاني -ذي الجذور الهندية- آصف كاباديا متحدثاً عن تجربته أثناء تصوير فيلمه عن أسطورة كرة القدم، اللاعب الأرجنتيني، دييجو مارادونا الذي اختتم به ثلاثيته السينمائية الوثائقية التراجيدية عن الموهوبين الذين تغتالهم الشهرة والنجومية مبكراً، آيريتون سينا وإيمي واينهاوس اللذان فارقا الحياة بشكل مأساوي وهما في قمة مجدهما وتألقهما.
هنا يُضيف المخرج: "لا أدري كم تبقى من دييجو الذي شاهدناه في نابولي ثمانينيات القرن الماضي. إنه الآن شخص آخر. الذين يعرفونه عن قرب يُشاركونني هذا الرأي. كان الناس يقولون في كثير من الأحيان": "نتمنى أن يكون هذا الشخص قد عاش وظل في تكوينه، لكنه رحل".
لا يكتفي المخرج كاباديا بذلك، إنما يشير إلى ثلاث شخصيات متناقضة داخل دييجو مارادونا مثلما يُلمح إلى صفة الاحتيال في سلوكه، ليس فقط من خلال الكلمة التي أضافها لعنوان فيلمه: "دييجو مارادونا.. متمرد. بطل. محتال. إله"، والذي يعرض ضمن ستين فيلماً أوروبياً بالدورة الـ١٢ من بانوراما الفيلم الأوروبي والممتدة في الفترة من ٦ - ١٦ نوفمبر الجاري.
كلمة محتال أغضبت مارادونا وجعلته يقول: "لعبت كرة القدم وحصلت على المال من الركض خلف الكرة، ولم أكن السبب في الاحتيال على أي شخص".
لكن، التأكيد على دلالات الاحتيال نلمحها، أيضاً، بإعادة ترديد المخرج لكلمات وأوصاف أطلقها مدرب اللياقة البدنية لمارادونا الذي قال له: "كن مستعدًا؛ لأنك ستكون في صحبة أعظم كذاب في العالم". لقد قالها مازحًا لكن مارادونا نفسه بالحوارات وكأنه يُبرر محاولات الخداع التي ارتكبها ومارسها فيقول: "إن كرة القدم هي لعبة خداع، إنها لعبة مخادعة". بينما كاباديا نفسه يُخبرنا بتصرفات حدثت معه تشي بالخداع: "أنت تسأله سؤالاً واحداً، عن شيء محدد، لكنه يُجيبك بشيء آخر. لا يزال هذا العقل المراوغ موجوداً".
بذور فيلم مارادونا
كل ما سبق، ورغم كل الأخطاء التي ارتكبها مارادونا فإن ذلك لا ينفي ولا يحول دون الإعجاب الشديد بشخصيته التي يُقدمها فيلم كاباديا. إنه شريط سينمائي يخطف الأنفاس. قصيدة موسيقية مشحونة بالصراعات والدراما، موسيقى تصنعها الصور واللقطات المتتابعة مونتاجياً، موسيقى يخلقها نوع القطع والانتقال بين الصور الثابتة والمتحركة، وزمن كل لقطة، وموقعها وزاويتها بشكل مُبهر، قادر على الاحتفاظ بالمتلقي غير الرياضي يقظاً مأخوذاً، قادراً على الفهم والمتابعة بسهولة ومتعة كبيرتين، كل ذلك بفضل موهبة وحساسية المونتير كريس كينج الذي كان شريكاً مع كاباديا في عمليه السابقين.
ظهرت فكرة المشروع قبل تنفيذ فيلم "إيمي" عن المغنية البريطانية إيمي واينهاوس التي رحلت في السابعة والعشرين من عمرها ونال عنه آصف كاباديا أوسكار أفضل فيلم وثائقي. كانت فكرة فيلم مارادونا أسبق. تحديداً عقب النجاح الكبير لفيلم "سينا" عن الرياضي البرازيلي آيرتون سينا عدَّاء سباق السيارات "فورمولا وان" والذي توفي في الرابعة والثلاثين أثناء التسابق.
تردد ونفور
يومها جاء الصحفي الرياضي بول مارتن للمخرج وحدثه عن امتلاكه أرشيفًا خرافيًا نادرًا عن مارادونا. لم يكن كاباديا متحمسًا. كان شعوره الداخلي كمبدع أنه ما زال خارجًا للتو من فيلم وثائقي عن شخصية رياضية برازيلية، ولا يستطيع الآن صناعة فيلم آخر عن بطل رياضي أرجنتيني، وكأن هناك تكرار ما، أو شيء ما جعله ينفر. وربما هو شعور كاباديا واعترافه بأنه "لا توجد أفلام كرة قدم جيدة جاذبة. أنا أقول ذلك كمشجع لكرة القدم. لا يمكن للممثلين أن يلعبوا الكرة كما يفعل اللاعب، مثلما لا يمكن للاعبين القيام بالتمثيل الأدائي. كما أن مشاهد الجماهير المحتشدة لا يمكن تصديقها. كل شيء يبدو وهمياً خرافيًا".
مع ذلك وفر آصف كاباديا لقاءً بين مارتن ومنتج أفلامه جيمس جاي ريس اللذين تعاونا بالفعل في إنتاج سلسلة أفلام تليفزيونية عن عدد من الرياضيين ليس من بينها شيء عن مارادونا. بينما واصل كاباديا تحقيق فيلمه عن "إيمي".
عندما ظهرت مجدداً أخبار عن مارادونا، وحضوره مناسبات رياضية في لندن، عادت فكرة الفيلم إلى الوجود. تشجع كاباديا. قرر ريس ومارتن أن يشتركا في الإنتاج، وبدأت رحلة المنتج في البحث والاستقصاء والتدقيق، والفحص، والحصول على حقوق العرض بموافقة مارادونا حتى يضمنوا عرض الصور واللقطات من دون أي مشاكل قضائية.
المتبصر والهواة المزعومون
رغم أن بول مارتن كان يمتلك أرشيفاً ضخمًا يحتوي ٥٠٠ ساعة من اللقطات الساحرة والتي لم تُرَ أجزاء عديدة منها من قبل، بعضها بالألوان وكذلك بها مشاهد ولقطات كثيرة بالأبيض والأسود، والتي يعود الفضل في الكثير منها -خصوصًا المتعلقة بمرحلة الصبا والمراهقة-، إلي الراحل خورخي سيترسبيلر صديق طفولة مارادونا ووكيل أعماله بعد ذلك لفترة - وفق تصريح كاباديا - فهو "توقع أن يتحول مارادونا إلى ظاهرة رياضية فاستعان بمصوري فيديو لتصوير حياته اليومية. لقد كان متبصرًا".
إضافة إلى أرشيفٍ ضخمٍ يعود إلى فترة برشلونة - وما بعدها قليلاً - تحديداً طوال ١٩٨١ إلى ١٩٨٧ إذ قام به اثنين من الهواة وعشاق مارادونا اللذان كانا يتتبعانه في كل تحركاته - وحتى بين أفراد عائلته، بشكل جنوني. لكن جاي ريس يقول إن "البعض يمكن بسهولة أن يعتقد بأن مارادونا نفسه هو مَنْ كلفهما بتلك المهمة، فقد كانا يتتبعانه طوال ٢٤ ساعة في الأيام السبع للأسبوع، وذلك عقب انتقاله إلي برشلونه وتعاقده مع النادي الإسباني إذ كان يخشى من اغتياله هناك". بينما يُشير المونتير كريس كينج إلى أن مارادونا ومدربه كانا يفكران في صنع فيلم عنه ليبيعه للأمريكان".
إصرار على لقاء الأسطورة
رغم كل ما سبق، ورغم هذا الكم الهائل غير العادي والساحر من المواد الأرشيفية النادرة له في الملاعب ووسط الجماهير، وفي الكواليس بغرف اللاعبين، وأثناء التدريبات الجماعية والفردية، وبين أفراد أسرته في البيوت المختلفة أثناء حفلات الشواء، والضحك والرقص، والنزهات، والتمارين القاسية، وتوجيهات المدرب، والحفلات الصاخبة، بين أفراد المافيا ورئيسها، وأثناء تعاطي الكوكايين، والعلاقات المتعددة مع النساء.
لكن، على خلاف فيلميه السابقين كان كاباديا مُصرًا على إجراء مقابلات مع بطل موضوعه الجديد، خصوصًا أنه لا يزال على قيد الحياة بعكس سينا وإيمي. ومَنْ يشاهد الفيلم يُدرك المغزى، فالصراع الدرامي في داخل وخارج الشخصية نتأمله من السرد المتحقق عبر خطين متوازيين، الأول تلك اللقاءات الحوارية بتوقيع آصف كاباديا، والثاني الصور الأرشيفية التي توثق لحياة مارادونا بدقة استثنائية، والمعبرة عن لغة سينمائية وحالات نفسية متعددة متفجرة لشخصية ولدت وعاشت في ظل ظروف صعبة للغاية، حيث كان دييجو مارادونا يعيش في أفقر مكان بالعاصمة الأرجنتينية. كانت الكرة بالنسبة له أجمل دُمية، وبصحبتها كان يستمتع بأوقاته. بل، إنه يقول: "كانت الكرة هي طريقي للخلاص".
الاعتزاز أضره أم أفاده؟
والمتأمل لكلماته هذه يكتشف أنها بالفعل كانت خلاصه، وصنعت أسطورته، ومن خلالها تم استحضار التاريخ، وكأنها تُعيده للأذهان، تهزه ليعود حياً نابضًا كما حدث في كأس العالم عام ١٩٨٦ فقد أعادت لذاكرة الشعب الأرجنتيني - وربما العالم أجمع - احتلال إنجلترا للأرجنتين، ورغم أن الشباك بين الفريقين ظلت نظيفة خلال الشوط الأول. لكن عندما قام مارادونا بتسجيل أكثر هدف متنازع عليه في تاريخ كرة القدم. هدف "يد الله" الذي لم يلحظه الحكم، والذي بعده أنكر مارادونا أنه صنعه بيده، لكنه حاول بعد ذلك "الهدف المخادع" أن يمحو خطيئته، فسجل هدفاً آخر بديعاً في الترقيص الجنوني الساحر، فقد تجاوز خصومه الأربعة. ثم بعد ٣٧ خطوة، وإحدى عشر لمسة للكرة حقق هدفاً لن ينساه العالم، فأحيا الأمل بقلوب الشعب الأرجنتيني وأعاد إليه كرامته، فاعتبروه بطلاً قوميًا.
كان مارادونا لديه اعتزاز كبير بنفسه، وبوطنه. هذا الاعتزاز جعله يرفض تشبيهه باللاعب البرازيلي الشهير بيليه، جعله يقول: "أريد أن أكون مارادونا، ولا أحد آخر".
هذا الاعتزاز بنفسه وبوطنه - وسط هالة الشهرة والأضواء - استفز كثيرين وربما لذلك سيُسهم في القضاء على موهبته مبكراً وعاجلاً. وذلك في أعقاب لقاء إيطاليا أمام الأرجنتين في الدور قبل النهائي في كأس العالم، عام ١٩٩٠ بسبب هدف سجله مارادونا في شباك إيطاليا فأخرجها من كأس العالم التي كانت تستضيفه.
مارادونا الذي عشقه جمهور نابولي، ها هو يُسجل هدفاً في الشباك الإيطالية على أرض نابولي. إنه ليس مجرد هدف، ولكنه هدف أطاح بإيطاليا المنظمة للمونديال. قضى على الحلم. لذلك، من تلك الليلة تحول العشق إلى كراهية، وبعد ثمانية أشهر فقط من كأس العالم كان الجميع في نابولي قد أصبحوا ضد مارادونا. كانوا جميعاً يريدون القضاء عليه، فتحالفوا لإثبات إدمانه للكوكايين، وانفضوا من حوله، حتى رجال المافيا - الذين عقدوا الصفقة مع النادي لأجل شراء مارادونا عام ٨٤ تخلوا عنه الآن، لدرجة أنه صور نفسه أثناء التدريب بدون إضاءة وهو يتحدث للكاميرا ساخرا من الأضواء، مشيرًا إلى عدم حبه لها، وأنه يعشق كرة القدم فقط. وسرعان ما سيتم القبض عليه وفي حوزته حصة من الكوكايين للتعاطي، وسط حشد من الصحفيين كأن هناك اتفاق مسبق، وسرعان ما تثبت إدانته بعينة تحليل الدم أيضًا.
الازدواجية والصراع
في اللقاءات التي أجراها المخرج، وكان يُحلل بعمق آثار الشهرة على شخصية دييجو مارادونا، منقباً عن الإنسان الكامن وراء اللاعب العبقري، بحثاً عن دييجو الإنسان ومدى ابتعاده أو قربه من مارادونا النجم. هنا يقول له مدرب اللياقة البدنية فرناندو سينيوريني إن: "مارادونا لاعب كرة القدم كان يُجسد شخصيتي دكتور جيكل ومستر هايد. كان هناك دييجو الطفل الحنون الطيب القادم من الأحياء الفقيرة، الذي تشعر به رجلاً بسيطاً من الشعب. ثم كان هناك مارادونا البطل والأسطورة بكل الجنون والرغبات".
كانت اللقاءات التي أجراها كاباديا رحلة تتطلب التدقيق والتقصي لمحاولة استخراج الصورة الحقيقية، أو على أقل تقدير الاقتراب بأقصى قدر ممكن من الصورة الصادقة. لذلك اتبع استراتيجية - وفق تصريحه - تعتمد على أنه "في كل مرة أقابل فيها شخصًا يعرف دييجو أو كان صديقًا له، أطرح عليه ضمن أسئلتي: في اعتقادك أين كان يمكن للقصة أن تنتهي؟ لدرجة أن أحد المقربين منه قال شيئًا مُظلمًا سوداوياً جداً، إنه كان أحياناً يتمنى لو أنه بعد فوز الأرجنتين بكأس العالم، عندما كانت الطائرة في طريق العودة، أن تتحطم، وينتهي مارادونا هناك. فذلك في رأيه كان أفضل شيء، بعد أن حقق حلمه".
بقي تساؤل: هل كان يمكن إنجاز الفيلم من دون التصوير مع مارادونا؟ في رأي كاباديا أن ذلك كان مستحيلاً. فقد كان من الضروري أيضًا تأمين مقابلات مع الرجل نفسه لإقناع الآخرين بالمشاركة. قال: "معظم الناس أخبرني.. إن لم يكن مارادونا موجوداً بالفيلم، وإن لم يتم التصوير معه، فلن نتحدث إليكم". وحتى بعد إجراء المقابلة مع مارادونا، أدرك كاباديا أنه كان راويًا غير موثوق في قصته تماماً، لذلك كان عليه البحث عن آخرين، للمضاهاة، والتوثيق، والتدقيق.

إعلان