لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الإسكندرية فكرة وليست مدينة

د. أحمد عمر

الإسكندرية فكرة وليست مدينة

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 24 نوفمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الإسكندرية فكرة وأفق روحي وعقلي وثقافي وحضاري، وليست مجرد مدينة. وكل من يُوضع في موضع قيادة ومسؤولية في أي جهة أو مؤسسة بها، دون أن يعرف قيمة ومعنى الإسكندرية، ورسالتها ودورها عبر التاريخ، ويستخدم إمكاناته والأدوات التي تحت يديه لخدمة المدينة والارتقاء بها، والحفاظ على معالمها وجمالها وحضورها المميز- وجوده في مكانه خطيئة في حق المدينة وأهلها، وحاضرها ومستقبلها.

لأن الإسكندرية حالة استثنائية في الحضارة والثقافة المصرية، حالة كان يجب تعميمها ليصبح لنا "نموذج الإسكندرية وثقافتها" في كل مدينة في مصر؛ فمنذ نشأت الإسكندرية كـ"فكرة" في عقل الإسكندر المقدوني، ثم وضع حجر تأسيسها عام 333 قبل الميلاد، وأمر أن يسكنها مجموعة من السكان الأصليين أصحاب الأرض، بالإضافة إلى حامية مقدونية وجالية يونانية، أصبحت الإسكندرية النموذج الأول للمدينة الكوزموبوليتية (العالمية) التي تضم أجناسًا وشعوبًا وثقافاتٍ مختلفة، وتهدف للقضاء على الصراعات والحروب المستمرة بين الثقافات والبشر، وتقديم فضاء حميم للعلم والعمل وعيش الحياة.

وهذا التلاقي السكاني والثقافي الذي ازداد ثراءً مع مرور السنين، هو ما صنع خصوصية الإسكندرية ودورها ورسالتها في ثقافتنا المصرية وفي الحضارة الإنسانية، وجعلها جسرًا بين الشرق والغرب، وأفقًا مفتوحًا لروح وعقل المتطلعين لكل ما هو جديد ومثير في مجال الأفكار والفلسفات وأساليب الحياة، وجعلها أيضًا فضاءً للحوار بين الثقافات والحضارات، وعاصمة للعالم القديم.

والإسكندرية هي موضع عشق المصريين من أهلها والوافدين عليها، وموضع عشق كل أجنبي زارها أو أقام بها، ولهذا قال عنها الراحل "نجيب محفوظ" على لسان "عامر وجدي" بطل رواية ميرامار: "الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع".

ومن أهم أسباب عشقنا للإسكندرية أنها مدينة التناقضات المتناغمة؛ فهي مدينة وثنية ودينية وصوفية، وهي مدينة المعابد والآثار اليونانية اليهودية والمسيحية والإسلامية. وهي مدينة القديسين المسيحيين والأولياء المسلمين. وهي في النهاية مدينة دور العلم والمراكز والمؤسسات الثقافية الراقية، ومدينة الحانات والمقاهي ودور المسرح والسينما.

ولهذا؛ فالإسكندرية مدينة كل شيء ونقيضه، وتلك التناقضات تستجيب للتناقضات الكامنة في الطبيعة البشرية، وتُشبع حاجاتها المتنوعة، ولهذا يجد الإنسان فيها ذاته وسعادته، بعد أن تتحرر روحه، وتسقط أغلال عقله.

والإسكندرية "مدينة صالحة للأحلام"، كما قال محمد المنسي قنديل في روايته "انكسار الروح"، وبخاصة "أحلام الغرباء" الذين يلجأون إليها في أوقات أزمتهم الشخصية والفكرية، ليعيدوا اكتشاف ذواتهم، وترميم ما تصدع من صروح أرواحهم وأحلامهم، فتمدهم بالكثير من المباهج والمنح، وتُعيد نبض الحياة إلى عروقهم، وتحفزهم على مواصلة الرحلة، وتعطيهم فرصة ثانية للحياة.

والإسكندرية هي مدينة "المشائين" الذين يُجيدون قراءة لغة البحر والحجارة والعمارة، ووجوه الناس؛ فالسير على شاطئ بحرها، وفي أحيائها وشوارعها وميادينها، وتأمل وجوه ناسها وجمال وتنوع ملامحهم - مصدر بهجة وثقافة، ومدخل مهم لاستدعاء تاريخ المدينة العظيم، والدخول في علاقة روحية وثقافية معها، وبعدها سوف تبوح لك المدينة بما لم تبُحْ به لعاشق قبلك، وستقع في هواها للأبد.

ولكل هذه الأسباب؛ فإن الإسكندرية مدينة حميمة ومعشوقة أثيرة لا يمكن أن تُعوضك عن فقدها مدينة أخرى، وسوف تعاني دومًا من وجع البعاد عن روحها ورائحتها وملامحها، وترهق روحك ذكرياتك معها، ومتعة اكتشافها وقربها، ومباهج سيرك وحيدًا متأملًا على شاطئها.

وإن اضطررت أن تقول: وداعًا للإسكندرية، كما قال "كفافيس" شاعرها الشهير، فاعلم أنك حتمًا سوف تعود إليها، ودومًا سوف تظل تقول: أعشق الإسكندرية.

وهذا العشق الذي لا يزول لفاتنة المدن هو الذي يجعلنا نتألم اليوم لما تتعرض له الإسكندرية من تشويه مستمر لمقوماتها وروحها، وإفساد لطابعها المميز وجمالها، وهو التشويه والإفساد الذي جعلها "مدينة آخذة في الأفول"، مدينة لن يتبقى لعشاقها منها مستقبلًا إلا حفنة رمل وملح وحزمة ذكريات.

وكل هذا الخراب والتشويه الذي تعانيه الإسكندرية مرجعه أن أغلب من تولوا أمرها، وصنعوا حاضرها في العقود الأخيرة لم يملكوا من الوعي التاريخي والثقافي والحضاري والجمالي ما يجعلهم يعرفون أن الإسكندرية فكرة وأفق روحي وعقلي، وميراث ثقافي وحضاري، وليست مجرد مدينة؛ ولهذا لم يقوموا بواجبهم في مواجهة كل أشكال تشويه وتبديد جمال وملامح وعمارة وتاريخ الإسكندرية، لتعود كما كانت فاتنة المدن، وقبلة الأرواح والعقول.

إعلان