لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

فيلم "بين بحرين"… حوار مسرحي شكلاني يدَّعي مناصرة قضايا المرأة

د. أمــل الجمل

فيلم "بين بحرين"… حوار مسرحي شكلاني يدَّعي مناصرة قضايا المرأة

د. أمل الجمل
09:00 م الخميس 17 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا شك أن مفردات الحوار بفيلم "بين بحرين" مميزة، وتبدو مستقاة من عوالم تلك النساء الفقيرات المطحونات في أي قرية أو منطقة شعبية بمصر. لكن ليس بمفردات الحوار وحده تُصنع السينما؛ لأنه عندما يظل الحوار يدور ويثرثر حول الشكليات من دون أن يلمس جوهر القضايا ويعمل على تعميقها، فمهما كان واقعيًا، ومهما بلغت درجة صدقيته، حينئذٍ لن يُفيد العمل السينمائي. بل، ربما يتحول إلى عبء ثقيل يهبط بالدراما إلى الدرج الأسفل.

يبدأ الفيلم بتحديد نطاقه المكاني وهو جزيرة الدهب في نهر النيل والتي يعيش سكانها حياة شبه بدائية، والحقيقة ألا شيء بالفيلم يميز الجزيرة، ولم ينجح في توظيف خصوصية تواجده بهذا المكان. وطوال الثلث الأول من الفيلم لم تبدأ مشكلته ومأزق أبطاله في الظهور، فالتأسيس للشخصيات وبيئتها استغرق أكثر من اللازم، وتظل مشكلة السيناريو الأساسية أنه لم يقدم مضمونًا حقيقيًا، فقد ظل يلف ويدور في الفراغ، فحتى عندما نصفه بأنه حوار مسرحي، فقد أخذ من المسرح الشكلانية وجاء مفرغاً من الدراما والفعل.
مع ذلك، فالسؤال الذي يطرح نفسه عقب مشاهدة الفيلم هو: لماذا قرر المجلس القومي للمرأة إنتاج فيلم "بين بحرين"؟ مَنْ هو الجمهور المستهدف؟ وما هي الرسالة والهدف الكامن وراء الإنتاج؟ ما يُصرح به القائمون على المجلس أن التوجه للإنتاج كان بهدف التأثير أكثر في الواقع، وتحقيق نتائج أكثر وأوسع انتشاراً في أجندة عملهم في دعم المرأة وتناول القضايا المجتمعية المتعلقة بها، فهل حقاً ناقش الفيلم شؤونًا وأمورًا تعاني منها المرأة؟ وهل يمكن أن يلعب ذلك النموذج دوراً في تغيير قناعات الناس أو فئة منهم؟! وهل يستحق الفيلم الأموال التي أنفقت عليه، أم كان من الأفضل إنتاج أفلام قصيرة أو حتى إنفاق تلك الأموال على دعم النساء وتصوير أفلام عنهن وعن قضاياهن؟

غياب الدراما والفعل
بداية، النوايا الحسنة لا تصنع فناً جيداً بالضرورة. ثانياً هل مَنْ يُشاهد الفيلم سيكف عن تختين بناته، وسيقنع الآخرين بأن يكفوا عن تختين الإناث؟ هذا العمل لو عُرض على فئة من الفلاحين القرويين، أو سكان الأحياء الشعبية، أو حتى لو عُرض على جمهور من الحاصلين على شهادات علياً هل يستطيع أن يُغير قناعاتهم بشأن قضية الختان؟ وعلى أي أساس نتوقع نجاحه في أن يُغير قناعاتهم؟ هل ناقش أفكارهم بشكل درامي مقنع فأثبت لهم أن معتقداتهم خاطئة عتيقة، وليس لها أساس من الصحة؟ هل قدم لهم بدائل فكرية ودينية تؤكد لهم أن ما يفعلونه هو أذى لبناتهم ولهم، وتطمئنهم بأن هناك تفسيرات حديثة تكشف عدم صحة تلك العادة البشعة التي يتستر وراءها بعض رجال الدين لفرض مزيد من السطوة الذكورية على المجتمع، وخاصة النساء؟
لم يقدم الفيلم أي شيء مما سبق، ولم يُناقش التراث المجتمعي الثقافي عن الفكرة المتداولة بأن المرأة التي لا يتم تختينها ستكون امرأة "سهلة الصيد" سيئة السمعة؛ لأن غواياتها تُصبح أمرًا هينًا. لم يناقش الفيلم ظاهرة الختان من أي جانب من جوانبها على الإطلاق، رغم أن بطلاته لا تكف عن الثرثرة بشكل زائد على الحد. واكتفى صُناع العمل بتدبير واقعة ختان الطفلة، وإتمامها، ثم حاول ابتزاز عواطفنا بتصوير مشهد الختان نفسه وبالغ في تجسيد صوت المقص وهو يقطع في اللحم الحي، ثم مشهد الفتاة الغارقة في دمائها، وموتها.
نعم، كان المشهد مؤثراً، بل غير محتمل، وابتزنا عاطفيًا، لكن تأثيره سيتلاشى بعد قليل؛ لأنه تعامل مع الصورة النمطية القديمة للختان على أيدي حلاق الصحة، فأين الأطباء والمستشفيات الكبيرة التي تمارس التختين بأعلى درجة من البراعة ودون مخاطر. هذا بديل مضمون لمؤيدي فكرة الختان. وربما، لذلك السبب عدد من المبدعين اعتبروه فيلمًا "قديمًا" لا علاقة لأحداثه بسنة إنتاجه ٢٠١٩.
في تقديري، مأزق الفيلم أنه لم يتعامل مع العقل، مع التفكير، مع الموروث الذهني المترسخ في قناعات هؤلاء البشر. فمن السهل جدًا أن تجعل الناس يبكون، ولكن من الصعب أن تجعلهم يُفكرون بعمق، ومن الأصعب أن تمتلك المقدرة على تفتيت قناعاتهم الخاطئة، واستبدالها بقناعات جديدة.
بعيدًا عن المبالغة في المشاهد السوداوية، المليئة بالكآبة، والمقبضة، التي تجعلنا ننفر من الشخصيات ولا نقدر على احتمالها، ولن نتعاطف معهن أبدًا، خصوصًا النساء من الجيل الأكبر، فالنتيجة هي النفور من الفيلم وعدم الذهاب إليه بدور العرض؛ لأن سمعة الأعمال السيئة تسير كالنار في الهشيم، وشخصيًا لا أتوقع له أي نجاح بدور العرض، وحتى عندما يعرض تليفزيونيًا فأعتقد أن: بعد الثلث الأول منه سيتم التحويل والبحث عن شيء آخر لمشاهدة أكثر بهجة، أو أقل كآبة.
الصور النمطية
وقع صناع الفيلم في إعادة إنتاج الصور النمطية التقليدية سواء للمرأة المتقدمة في السن - الأمهات والجدات - بأنهن يتسمن بالفظاظة، والخشونة الفجة، ويتعاملن مع بناتهن بقسوة تجعل البنات يقبلن بالزواج فقط من أجل الانعتاق من أسرهن. فإذا كان ذلك ينطبق على بعض النساء من أجيال سابقة فليس بالضرورة أن يظهر أفراد ذلك الجيل بأكمله هكذا.
صورة شيخ الجامع إحدى أبرز الصور النمطية، في رسم الشخصية وحتى في تجسيدها، سواء بالصوت العالي والترهيب الفج في الحوار، أما باقي الرجال فخضعوا أيضاً للتنميط، فهناك الابن الذي تعلم وسافر واختفي، وحتى عندما يعود لا يريد التورط في مشاكل أسرته، وهو شخصية كاريكاتورية شاهدنها في العديد من الأعمال. وهناك الزوج الذي يضرب زوجته ويهينها بسبب ومن غير سبب، بشكل غير مقنع أبدًا.
المثير للدهشة أن بعض المؤسسات المهتمة بقضايا المرأة كانت قدمت دراسات تثبت أن المرأة المعيلة نسبتها كبيرة جدًا، لكن النساء كما يظهرن بالفيلم أغلبهن عاطلات عن العمل، كسالى ولا يبحثن عن فرصة للاستقلال المادي، بل ينتظرن المخلص في أشكال مختلفة.

عن إشكالية السيناريو
تُنسب فكرة وتأليف الفيلم - الذي تم إنتاجه بالتعاون المشترك بين المجلس القومي للمرأة، وهيئة الأمم المتحدة للمرأة، وشركة أكسير وشركاء التنمية، وتولت شركة MAD Solutions مهام الترويج والتوزيع له في الوطن العربي - لمريم ناعوم، والتي يُشير صناع الفيلم أثناء الحوارات المتلفزة أن ناعوم أشرفت على كتابة السيناريو والحوار الذي قامت به أماني التونسي.
جاء فيلم "بين بحرين" بتوقيع أنس طلبة الذي أخرج من قبل أغنية فيديو كليب للمطرب زاب ثروت، وأمينة خليل بعنوان "نور". والأغنية جاءت في إطار دعم حملة التاء المربوطة، وكانت أيضاً من الإنتاج المشترك بين المجلس القومي للمرأة وهيئة الأمم المتحدة للمرأة، وهيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، إضافة إلى دعم آخر من "الشعب الياباني".
اللافت والمدهش في الأمر أن تأثير الأغنية أقوى وأجمل وأكثر جاذبية من الفيلم البائس بمراحل عديدة، فالأغنية تنتمي إلى الراب، كلماتها تحكي عن نور التي يتخيل البعض من اسمها وتجاربها في السيرة الذاتية التي تقدمها للشركات أنها شاب وليست فتاة، عن قصة إصرارها وكفاحها وكيف ساندت إخوتها بعد وفاة والدها، ورحلة نجاحها في الحياة وقيامها بأعمال يمتهنها الرجال، ورغم تقليدية الحكاية لكن سردها الغنائي تم بشكل لطيف وبصورة مغايرة ومحفزة للإرادة وذات دلالة، ثم في تتر الختام تُطرح لقطات لاثنتين من الفتيات - من الواقع المصري - أصحاب الإرادة القوية، والاثنتان تستحقان صناعة فيلم عنهما، فلماذا لم يُنجز المجلس القومي للمرأة تلك الخطوة بدلا من إنتاج ذلك الفيلم الضعيف المسمى "بين بحرين".
يبقى التساؤل هل تصبح مسؤولية السينما - خصوصا التي تنتجها مؤسسات ومجالس داعمة للمرأة - أن تُعيد إنتاج الواقع كما هو من دون أن تناقشه، فإذا كان الواقع متاحًا لنا جميعاً، أو على الأقل أغلبنا يعيشه فلماذا نعيد اجتراره بشكل منفر ومأساوي أكثر من الواقع ذاته.

إعلان