لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

سامح كعوش.. شغف يكفي لرؤية الموهبة وقراءة الإبداع

د. أمــل الجمل

سامح كعوش.. شغف يكفي لرؤية الموهبة وقراءة الإبداع

د. أمل الجمل
09:00 م السبت 12 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا يتذكر الكثيرون من سيرة عباس بن فرناس إلا ريادته في علوم الطيران، ولحظة رحيله حين مات محاولا الطيران بجناحين من الريش، كان قد كسا به جسمه، ثم قام بلصقه بالشمع، حيث مد له جناحين طار بهما في الجو مسافة بعيدة، لكن الشمع عندما تشبع بأشعة الشمس ذاب، فانفصل الجناحان وسقط ابن فرناس مرتطماً بالأرض من علو شاهق، فمات. وكأنه الموت شغفًا بتحقيق حلم في الخيال.
لكن سيرة عباس بن فرناس كانت أغنى من أن تُختصر في حلم الطيران. لقد كان فيلسوفًا شاعرًا، له في علم الفلك، وأول من استنبط في الأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وصنع «الميقاتة» لمعرفة الوقت، ومثَّل في بيته السماء بنجومها، وغيومها، وبروقها ورعودها.

من تلك الحكاية عن سيرة عباس بن فرناس، وعن الجوانب والأوجه الإبداعية غير المعروفة عنه يدور الفصل الأخير من كتاب «قراءة في روائع الأندلسيات» للشاعر والكاتب والناقد الفلسطيني المبدع سامح كعوش.

يقع الكتاب في ٩٢ صفحة، إصدار عام ٢٠١٩. وقد اختار المؤلف عشر شخصيات من أبرع شعراء الأندلس، والتي يجمع بينهم الحلم والخيال، ليُقدم لنا قراءة إبداعية لتجربتهم الشعرية وعلاقات الحب والغزل في حياتهم وأثر السياسة عليهم، وذلك كله بأسلوب تحليلي نقدي جذاب لغويًا وفكريًا لقصائدهم.

استهل كعوش كتابه بشخصية ابن زيدون.. متسائلًا في العنوان: قصة حب في الأندلس أم مشروع بناء دولة؟ وأثناء سرده الشيق يذكرنا بأشهر قصائده: «أضحى التنائي بديلًا من تدانينا» ليتخذ منها مفتاحًا دلاليًا في قراءة قصة حبه مع ولادة بنت المستكفي التي وصفها بأنها كانت «إفناء ذات» لكنه، أيضًا، من خلال ذلك الحب نظم روائع الشعر ودرره، واكتمل مجده الشخصي.

ثم ينطلق الشاعر سامح كعوش إلى قصص النجاح الأخرى في حياة الشاعر الأشهر وشخصيته الريادية الطموح الباحثة عن المجد السياسي والاشتهار المجتمعي، إضافة إلى قصة وعيه السياسي البعيد، وتفكيره في استعادة أمجاد الأندلس عبر قائد قوي قادر على توحيدها في مواجهة ممالك أوربا، وذلك كله قبل أن يتم حبس ابن زيدون عندما اتهم بمؤامرة لإعادة دولة الأمويين، والمفارقة التي يستعيدها كعوش - مستندًا إلى تفسير أحد المستشرقين- أن ابن زيدون في بداية عمله السياسي شارك في تقويض أركان دولة بني أمية في الأندلس، لكن مع تأجج ولعه وغرامه بولادة بنت المستكفي سعى مجددًا للقيام بدور عكسي محاولًا إعادتهم للحكم، ليكون بذلك كمن امتلك المجد من أطرافه كلها، فهو شاعر المشروع السياسي وشاعر الغزل والرومانسية، ولكلا الأمرين ارتباط وثيق بولادة بنت المستكفي.

كذلك للشاعر والعالم ابن حزم الأندلسي حظ ونصيب وافر بكتاب «قراءة في روائع الأندلسيات»، مع تقديم تفسيرات عدة وشروح لأسباب الانقلاب عليه وحرق كتبه بعد تأليب العامة والفقهاء والسلطان ضده، ثم يتطرق كعوش إلى كلامه وأشعاره في ماهية الحب، ومنها يفتح أبوابًا عديدة لا يُغلقها عن تلك الآراء والأفكار التي حارت في توصيف وإنصاف وتصنيف ابن حزم الأندلسي.

ومن زاوية الكوتة النسوية، اختار المؤلف اثنتين من الشاعرات خصص لهما فصلين بكتابه، هما؛ حفصة بنت حمدون بعنوان: «شاعرة وادي الحجارة: قلبها من حجر وعشاقها كُثر» لكن الاختيار الآخر كان على وجهي نقيض من حفصة، سواء في الشاعرية والصفاء ورقة الشخصية؛ إنها بثينة بنت المعتمد بن عباد «ابنة ملك وسليلة مجد تُسبى» والتي يُقدم لها كعوش قراءة منحازة إلى فطنة هذه الأميرة الشاعرة التي أُسر والدها، فهربت متنكرة، لكن عندما أُسرت هي أيضا وبيعت لأحد التجار- الذي قرر تزويجها من ابنه- كانت من الكبرياء والذكاء بحيث لم تنسَ أنها أميرة وابنة ملك، وأقنعت الرجلين بأسلوب مهذب، لا يخلو من الكبرياء، ومقنع بالانتظار لتحصل على موافقة ولي أمرها القابع في أسره، فكتبت القصائد، وتبادلت معه رسائل شاعرية مؤثرة عميقة ورقيقة، فسجلت- برأي كعوش- واحدة من أكثر القصص في التاريخ واقعية وأسًى.

كتب عباس محمود العقاد ذات يوم رأيه في ترتيب فنون الآداب، واعتبر الشعر يومها أرقى من القصة؛ إذ وصف الشعر بالشجرة النامية ذات الزهر والثمر، بينما اعتبر القصة مثل البذرة الضئيلة. وأنا أستعيد تقييم العقاد بعد قراءتي لعدد من إبداعات الشاعر والناقد الفلسطيني سامح كعوش، فأجده مبدعًا وارفَ الظلال في صنوف الإبداع والكتابة النقدية، قصةً أو شعرًا أو روايةً. إنه يمتلك القدرة الفائقة على خلق الدهشة واستحضار الذكريات رغم لحظات الارتباك الوجودي التي تشي بها بعض النصوص.

النقد عنده مقروء بشغف، وبصيرة المحب غير المتعالي، المنقب عن جماليات المعاني. النقد عنده مكتوب بلغة موسومة بالبلاغة وتعدد مستويات التلقي، رغم أنها تبدو لغة مفهومة وغير ملغزة. ربما لأنه يكتب بإحساس الشاعر الممزوج برؤيته وخبراته المتراكمة عبر السنين. فقد كتب كعوش في دواوينه الشعرية الستة عن تشظي الإنسان، والشعور بالهامشية دون الانسحاق لها، خصوصًا في المدن الكبرى، كتب عن الانسان المتمسك بالمستحيل، العاشق للحياة، الباحث عن الحب، المتيم بالمرأة والذي يُكن لها احترامًا. كذلك كتب عن الإنسان القادر على أن ينتصر على رتابة الموجودات وبلاهتها، وهو أثناء ذلك يتسلح بكم هائل من الأساطير التي تحيل المكان كائنًا حيًا يتنفس، وينبض بالدلالات الرمزية للمكان الأسطوري.

إعلان