لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

المقبرة البحرية لزاهد الإسكندرية

المقبرة البحرية لزاهد الإسكندرية

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 02 سبتمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تُعد قصيدة "المقبرة البحرية" للشاعر الفرنسي بول فاليري (1871-1945) واحدة من أجمل وأعمق القصائد التي عرفها الشعر الفرنسي المعاصر، ولهذا يكاد يحفظها عن ظهر قلب كل محب للشعر الفرنسي. وتُعبر القصيدة عن مزاج بول فاليري وفلسفته في الحياة والموت؛ فقد كان شخصية تميل للعزلة والصمت وحياة التأمل والتفكير والعزوف عن دواعي الشهرة ومباهج الحياة.

وقد أظهرت القصيدة أبرز المعاني العاطفية والعقلية في وجدانه وحياته، والمرتبطين بعشق البحر وزرقته، وعشق السماء بصفائها وضيائها، ولهذا جعل أقصى أمنياته أن يدفن بعد موته في "المقبرة البحرية" بالمدينة التي ولد فيها، وعاش جزءًا كبيرًا من طفولته وصباه وشبابه الباكر، وهي مدينة "سيت" بالجنوب الفرنسي على شاطئ البحر المتوسط، ليكون قريبًا في موته من زرقة السماء والبحر، كما كان الأمر عليه في حياته.

وكم كان من دواعي سروري اكتشاف أن زاهد الإسكندرية الشيخ أبو القاسم بن منصور بن يحيى القباري (587 – 662 هجرية)، وهو صاحب المقام والمسجد الشهيرين بغرب الإسكندرية، قد سبق بول فاليري بقرون عديدة في التصريح بالرغبة في أن يضم جسده بعد موته مقبرة على شاطئ البحر؛ وهي الرغبة التي تعبر عن حس إنساني وفلسفي وجمالي راقٍ عند الشاعر الفرنسي والصوفي السكندري، وعن ورع شديد عند أبي القاسم القباري خاصة، وهو الصوفي الذي أخلص في العمل، واجتهد في قطع الأمل، ومال إلى العزلة، واستعد للرحلة، وأراد أن يكون وحيدًا مع الله الواحد في حياته وبعد مماته.

ويتضح لنا سبق القباري للشاعر بول فاليري في التعبير عن تلك الأمنية من قوله الذي رواه عنه تلميذه ناصر الدين بن المنير، المتوفى عام 683 هجرية، وهذا نصه:

"علم الله مني أنني أوثر الوحدة في الحياة وبعد الممات، وألا يُبَدع أحد بي. ولو كان الشرع يُسوغ أو كان القدر يفوض حكم النفوس لأربابها، ما قدمت أمرًا على الخروج من هذه الأسباب على الفور، والتوجه إلى هذا البحر على مسيرة يوم من العمران، وأن أغتسل في البحر للموت، وألتف في عباءة وأعمد إلى مغارة من تلك المغارات، فأدخلها وأصلي فيها ركعتين، وأمتد للموت... إلى أن يأتي الوقت المعلوم".

وكان غرضه بالطبع في إبعاد قبره وإهماله أن تستمر له الوحدة مع الواحد بعد الموت، وقريبًا من البحر. وأن يجهل الناس قبره فلا يزوره أو يُحدثوا حوله سلوكًا يدخل في باب البدع.

وفي واقع الأمر، فقد كان الشيخ القباري منقطع النظير في تعففه وورعه وبعده عن سؤال الناس والحكام، وكان صاحب فلسفة مميزة في الاستغناء، ولهذا قال رحمة الله عليه: "وزنت الأحوال بميزان الاعتبار، فوجدتها لا تصح إلا بالعزلة، والعزلة لا تصح إلا بقطع الطمع في الناس. وهذا الطمع على ثلاثة أوجه: طمع في أموالهم، وطمع في إقبالهم، وطمع في الارتفاع بينهم. والأول والثاني ظاهران للخلق، والثالث لا يطلع عليه إلا الله تعالى. ولكن من رأيناه سالمًا من الأول والثاني حسّنا الظن به، ورجونا له السلامة من الثالث. ومن رأيناه واقعًا في الأول والثاني، أسأنا به الظن وعرفنا أنه واقع في الثالث".

ولهذا دفعه حبه للعزلة والبعد عن الناس وترك حب الشهرة والارتفاع في المنزلة بينهم إلى الإقامة الدائمة ببستانه الذي استصلحه بغرب الإسكندرية من الأرض المتروكة والمباحة، وامتلكه بقاعدة إحياء الأرض الموات، بعد أخذ إذن السلطان، وكان يعمل فيه بمفرده مع خادم له، ويقتات منه ويطعم الفقراء من ثماره. وعلى باب هذا البستان كان يقف الأمراء والكبراء بل سلاطين الدولة، فلا يؤذن لهم إلا نادرًا، وإذا دخلوا عنده ارتعدت قلوبهم من قوته وشدته، واستغربوا استغناءه التام عما يملكونه من مال وجاه وسلطان.

وقد عاش القباري في تلك الجهة المنقطعة الموحشة، لسنوات، فريدًا وحيدًا رغم اختلاف الأوقات وترادف الآفات، وهو مصون في رعاية الله وأمنه، بلا زوجة أو ولد، إلى أن لقى الله تعالى مطمئنًا ومحروسًا بعين عنايته سنة 662 هجرية، ودفن في بستانه- لا بالمقبرة البحرية التي تمناها- وأقيم على ضريحه مسجد.

ثم أقبل بعد ذلك أهل الإسكندرية على السكن حول القبر في تلك المنطقة الموحشة، فعمر الحي، وأصبح اليوم من أكبر أحياء الإسكندرية؛ فرحمة الله على زاهد الإسكندرية، الصوفي البستاني، الشيخ الورع الجليل أبي القاسم القباري، ونفعنا الله بسيرته وعلمه وأقواله.

إعلان