إعلان

كيف ولماذا أصبحت مصر دولة طاردة.. وقاتلة للمواهب؟!

كيف ولماذا أصبحت مصر دولة طاردة.. وقاتلة للمواهب؟!

د. أمل الجمل
09:19 م الجمعة 11 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ذات يوم من عام ٢٠٠٧ وصلتني دعوة على بريدي الإلكتروني من الصديق الراحل الناقد السينمائي الفلسطيني بشار إبراهيم لزيارة مدينة دبي.

قال فيها مازحاً: سطوت على نسخة كتابك "بعيون امرأة" التي أهديتها أنت إلى بندر عبدالحميد، وجدتها بمكتبته فقرأتها ولأن مقالك عن المخرج المصري إبراهيم البطوط أعجبني سوف أسطو مرة أخرى على فقرات منه لطرحها ضمن برنامجي عن السينما البديلة، ولذلك أيضاً أوجه لك الدعوة لمناقشة فيلم "إيثاكي" للبطوط في حضور مخرجه ضمن حلقة من البرنامج على قناة الشروق السودانية التي تبث من دبي".

كانت تلك هى زيارتي الأولي إلى دبي. يومها تملكتني الدهشة وجلست أتطلع من نافذة السيارة إلى البنايات الشاهقات، كانت عيوني تدور مع العمارة ذات الطراز الغربي اللافت، أرى الأشجار والخضرة تشق عباب الصحراء وتُحيل الرمال الصفراء إلى جنة خضراء، ومسطحات المياه تتوسطها نوافير. الالتزام بالقانون، كاميرات المراقبة في كل مكان، البنية التحتية يبدو الاهتمام بها واضحاً، النظافة سمة واضحة. الأحاديث لا تتوقف عن مشاريع ضخمة مستقبلية.

يومها تحطمت إحدى الصور الذهنية النمطية الراسخة في عقلي عن إحدى دول الخليج. وجدتني أتساءل بصوت مرتفع: "كيف أصبحت دبي هكذا؟" كنت أشعر أنني لست في دولة عربية.

فالأجواء الغربية ليست فقط بالطراز المعماري، ولكن أيضاً ثقافة العمل ومن خلال حديث بشار عن التقدم الذي تحرزه تلك المدينة، وعن تلك القنوات الفضائية العديدة التي صارت تبث من فوق أراضيها.

تعودت ألا أنبهر وفقط، فدائمًا أتساءل: لماذا ينجح بعض الناس في تحقيق حلم ما، بينما لا ينجح آخرون في تحقيقه؟ ما الذي يتفوقون فيه علينا؟ هل لديهم موارد وثروات طبيعية غير متاحة لدينا؟ هل يمتلكون ثروات بشرية مختلفة عما لدينا؟ كانت تلك طبيعتي منذ الطفولة، فلو قالت مدرسة لإحدى الطالبات تعالي لتقومي بالغناء.. أسأل نفسي: لماذا هى؟ لو طلب مدرس الرياضة من طالبة أن تشارك في لعبة ما، أسأل نفسي: وهل أنا غير قادرة على ممارسة تلك اللعبة؟ ثم أبدأ في التجربة والخطأ. حدث ذلك مرات عديدة. بالطبع لم أكن أجيد الأشياء كلها. بل كانت هناك نتائج شبه كارثية أحياناً، فأدائي في الشعر كان سيئًا، ولكن المدرس كان - بخلاف مدرس اللغة العربية - لطيفاً معي، تمامًا كما فعلت مدرسة الموسيقي سلوى المرسي، لأنهما كانا شخصيات سوية، وربما لأني كنت متفوقة دراسياً وهما أدركا طموحي لفعل أشياء كثيرة.

كنت أبحث في كل شيء، ميزة ذلك الفضول أنه جعلني أختبر قدراتي، وأعرف النقاط التي تميزني عن غيري. كان لدي جرأة أندهش لها الآن. جرأة الطفولة التي لا تُدرك الحسابات ولا تعيها، ولكنها تسعي للفعل والإنجاز، جرأة أفادتني، وجعلتني لا أستسلم لأحكام الآخرين على شخصيتي.

الأجواء المصرية الخانقة

يومها حدثني بشار إبراهيم عن كثير من إنجازات دبي، وأنها لم تكن مدينة نفطية، فإنتاج النفط بها ربما لا يزيد على ٢٪ من مواردها، إنها تعتمد على التجارة، وشرح لي كيف أنها تذلل العقبات أمام رجال الأعمال والمستثمرين؟ كيف أن قناة الشروق في البدء حاولت أن تبث من مصر لكن بعض المسئولين بالغوا في التقديرات والمطالب وتسببوا في هروب أصحاب رأس المال الذين قرروا بدورهم محاولة البث من دبي، ونجحت المحاولة إذ تم تذليل العقبات لهم بأسلوب دقيق مسئول، وهو ما تكرر مع كثير من القنوات الفضائية الأخرى التي اجتذبتها دبي، فحتى أشهر نجوم السينما العالميين نجحت دبي في إقناعهم بالتصوير على أراضيها وأقصد توم كروز في أحد أجزاء "مهمة مستحيلة" ويومها تم الاتفاق على أن يعرض الفيلم بمهرجان دبي السينمائي والذي حضره توم كروز وأقيم له مؤتمر صحفي ضخم - حضرته كاتبة هذه السطور- في أحد طوابق برج خليفة الذي تم تصوير بعض مشاهد الفيلم به. حتى أنني يومها تساءلت مَنْ الذي استفاد من الآخر أكثر؟ دبي هى التي استفادت من توم كروز أم النجم العالمي هو الذي استفاد من تلك المدينة التي صارت عالمية وأكثر شهرة من أي دولة عربية أخرى؟

كان هذا محيرا لي، ومثيراً للتساؤل: كيف نجحت دبي في أن تكون جاذبة بتلك القوة والاحترام؟ ولماذا صارت مصر طاردة بهذا الشكل؟ وقتها تذكرت كيف تم إغلاق منافذ التصوير الأجنبي في مصر بسبب تلك العراقيل، بسبب المبالغة في الشروط التي يفرضونها على فرق التصوير الأجنبية، رغم أن ذلك كان يُدر دخلا على مصر، كان مكسبًا على أصعدة متنوعة منها اكتساب الخبرات الأجنبية، وإدخال العملة الصعبة، والدعاية للمناطق السياحية، كما أنه أحياناً قد يتحول مشروع تصوير فيلم بمصر إلى تجربة إنتاج مشترك، لكن بعض المسئولين بأرض الكنانة، وتعدد الجهات التي تعمل كمصادر للجباية تستنزف أو تريد أن "تحلب" الأجنبي القادم للتصوير، إضافة إلى الرقابة التي كانت تصر على أن تطلع على السيناريو أغلقت هى الأخرى هذا الباب "بالضبة والمفتاح" وجعلت الأجانب يفرون إلي دولة المغرب أساسا، وبلدان أخرى.

طرد آخر

كانت الحسرة تطفو علي السطح وشعرت بمرارة في حلقي، أحاول أن أغالب تلك الأحاسيس بالاستمتاع بالمنظر. صمت فانتقل الحوار إلي بشار والبطوط عن مشاق الرحلة من المغرب إلي دبي وتطورات عمله هناك، فقد كان الأخير قادمًا من المغرب لأنه في ذلك الوقت كان يسعي لتحويل فيلمه الروائي الطويل الأول "عين شمس" من ديجيتال إلى شريط سينما ٣٥ مم، وذلك بعد أن وافق نور الدين صايل علي أن يتولى المركز السينمائي المغربي تلك المهمة ويتكفل بالدعم المادي والفني اللازم في حين أن مصر لم تبادر بذلك رغم أن وزارة الثقافة كانت تزعم أنها تدعم السينما، والأكثر دهشة أن يتم رفض منح الفيلم الجنسية المصرية لأنه لم يقدم سيناريو مكتوبًا للرقابة قبل التصوير، وأصر الرقيب وقتها الناقد السينمائي علي أبوشادي علي خطوة "منافية للمنطق" وهى أن تتم كتابة سيناريو يُقدم للرقابة لكي يحصل على الموافقة المبدئية للتصوير وذلك رغم أن الفيلم تم تصويره ونقله من الديجتيال إلى ٣٥ مم وعُرض في مهرجانات دولية ونال جوائز، وحينما رفض البطوط الاقتراح وواصل حملته في محاولة منه لتحجيم دور الرقابة كخطوة أولى لتجاوزها لاحقاً، لكن الناقد السينمائي المستنير علي أبوشادي اعتبرها في ذلك الوقت -وفي حوار متلفز - خطوة تستهدف منصبه بشكل شخصي، متناسياً أنه كمثقف وكناقد سينمائي - طالما وقف كثيرًا مع المبدعين - ويجب عليه أن يكون ضد وجود الرقابة.

هذا النوع من الجباية الطاردة للإبداع والاستثمار تكرر أيضاً مع فيلم "باب الشمس ليسري نصرالله الذي تم رفض منحه الجنسية المصرية لأنه كان مطالبا وقتها بتسديد مبلغ يقترب من ٦٠٠ ألف جنيه مصري - لما الجنيه كان له قيمة ولما كان الـ٦٠٠ ألف تعادل ٦٠٠ مليون تقريباً - للنقابات المختلفة كأحد أشكال الجباية عن الممثلين العرب المشاركين بالفيلم.

عبث، والله عبث. فيلم مصري مهم اعتبرته مجلة "فارايتي" واحداً من أهم عشرة أفلام في ذلك العام - وأعتبره أنا شخصياً واحدا من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية والعربية - لكن مصر ترفض أن تمنحه الجنسية المصرية؟!

القتل مع سبق الإصرار

عندما يبدأ الحديث عن أسباب تأخر مصر يكون رأي البعض أحياناً أصل الشعب مش عاوز يشتغل، ولازم نغير الشعب، وأنا لن أدافع ولن أقول أن "كل" الشعب عاوز يشتغل. لأنني شخصياً عانيت من "فهلوة" الكثيرين خصوصا في الأعمال التي تتطلب جهدا جماعياً. أذكر أن رؤسائي كانوا يحشرون لنا في بعض الأعمال الجماعية زميلا معروفا بكسله وتواضع قدراته وذلك حتي نغطي علي أدائه ثم في النهاية يتقاسم معنا بالتساوي مكافآتنا. لكنني - وبصرف النظر عن ذلك المثال – ما زلت أتساءل بدهشة: لماذا يتفوق المصريون بالخارج، ولماذا يعملون ساعات طويلة بإخلاص وتفان واضح؟ ولماذا يلتزمون بالقانون ولا يخترقونه سواء في دبي، أو في أي من الدول الأوروبية والغربية؟ هل لأن ثقافة القانون يتم تطبيقها والالتزام بها؟ أم أن الأمر يتعلق بحقوق الإنسان، وأنهم يدركون أنه سيتم تقديرهم؟!

وما زلت أتساءل أيضاً: لماذا يوجد مصريون، شباب وشابات عندما يعملون بمصر لا يعلم أحد عنهم شيئاً وقد يعانون الأمرين، لكن حينما يهاجرون يسطع نجمهم؟ بالطبع جميعكم يعرف الكثير من هؤلاء النماذج الذين خرجوا من مصر وصاروا علامات علي مستوي العالم، وهؤلاء النماذج لو كانوا في مصر لتم دفنهم ولم يكونوا ليحققوا شيئا مهما مما حققوا بالخارج.

لغز ماسبيرو؟!

مبنى ماسبيرو، مثلاً، مبنى الإذاعة والتليفزيون الحكومي الذي يسبب صداعاً للكثيرين ويتحدثون عن سطحية برامجه، وتفاهة بعض مذيعيه، ويهاجمونه، ويسعي بعضهم للقضاء عليه، هذا المبنى خرج منه نسبة كبيرة جدا من الإعلاميين والإعلاميات والمخرجين والمخرجات والمصورين والمصورات ومعدي البرامج الذين يعملون في أهم وأكبر القنوات الفضائية العربية والدولية بدءا من دبي وصولا لأمريكا وروسيا وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول. أقول لكم: هذا المبنى تم تفريغه من الكفاءات والكوادر، ومع ذلك لا يزال به كثير من المواهب المدفونة أو تلك التي يتم قتلها وأخري يتم مسح هويتها واستنساخها، ما يجعلني أتساءل كثيرا: لماذا لا تلمع تلك المواهب ولا يتم استغلال كفاءتها وهي في أحضان ذلك المبنى؟!

ولماذا أنا في لحظة ما قررت التخلي عن آمالي هناك؟! فبعد أن كنت أُكرس كل حياتي لإنجاز برامجي السينمائية هناك، وبعد أن كنت أسهر بذلك المبني حتي الساعات الأولي من الصباح لأشاهد حوارات الضيوف وأقوم بتفريغها، تفريغ كلمة بكلمة وبالتايم كوود، وزملائي عليَّ شهود - لكني أدركت في لحظة إضاءة أنه لا مستقبل لي في هذا المبنى، ليس فقط لأنني وصلت للسقف، فقد كان أو صار منخفضاً للأسف، وليس فقط لأن الأمر لا يقتصر على أن عملي يُنسب لآخرين، ولكني لم أكن أنل كلمة تشجيع واحدة، وأحياناً كان يتم التجاهل، ومحاباة آخرين وإشراكهم في المسابقات المهمة ومنحهم الجوائز لأنهم من ذوي النفوذ والعلاقات، وتوقعت أنه لاحقا سيتم سحب كل الفرص الجيدة مني كنوع من العقاب إذا تمردت أو خالفت رأي البعض، أو حتى لو وشي بي أحدهم، وقد كان.

كان إحساسًا بالقهر فظيع، تم سحب البرنامج الذي كان من فكرتي أصلاً، وتم سحب أفكار حلقات تسجيلية كنت بدأت في الإعداد لها وكنت قد قمت بلقاء بعض ضيوفها والحديث معهم. في البداية دخلت في العناد، ودافعت عن حقي، لكني أدركت أنها حرب من دون جدوي. ليس فقط لأننا في بلد لا يعترف بالحقوق، لكن أيضاً لأنني سأضيع جهودي بلا طائل، وأن الأفضل لي، بل الواجب علي أن أُوجه طاقتي في إنتاج ما أحب.

هنا قررت أنني خسارة في هذا المكان، وأنه لا يستحقني، أنني سأبحث عن حلم آخر في موقع آخر. وكان لدي يقين بأنني يمكنني أن أبني نفسي في أي مكان. ولم يكن الأمر يتعلق بشخصي وحدي، هناك زميلات وزملاء آخرون عانوا مثلما عانيت، ويكفي أن أذكر واقعة تتعلق بالمجاملات عانى منها كل زملائى، فقد كانت مديرة أحد الأماكن منحازة لبعض الشباب - وبالطبع لا أنكر أنه كان يقدم عملا جيدا - لكن زميلاته وزملاءه أيضاً كانوا قادرين على تقديم أعمال جيدة جدا، فقط لو نالوا نفس الفرص التي كان يحظى بها على الدوام، فقد كانت كل فرصة ينالها تمنحه مزيداً من الخبرة الجديدة التي تدفعه للأمام، بينما يبقي زملاؤه محلك سر، لا يكتسبون خبرات جديدة، ولا يطورون من أنفسهم، وبعضهن دفعن الثمن لأنهن كن فتيات ونساء يُعبرن عن آرائهن بصراحة في مواجهة سلطة نسوية منحازة للرجال، لذلك لم ولن ألوم أيًا منهم - نساء ورجالًا - حين بدأ كل منهم البحث عن مكان آخر خارج البلد ليحقق فيه طموحه وأحلامه.

بلدنا للأسف طارد للطموح، وللمواهب، والمؤلم أنه يمارس فعل القتل حتى مع بعض من خرجوا ولفتوا أنظار العالم بموهبتهم وإخلاصهم وتميزهم. .

وما قرأته مؤخراً عما حدث مع نجم الكرة المصري محمد صلاح نموذج مؤلم ومثير للغثيان لما يحدث في مصر كثيراً. بدءا من استغلال صورته ووضعها علي الطائرة بجوار اسم شركة إعلانية بدون الرجوع إليه، مرورا بتنصل المتسببين في المشكلة من محاولة حلها، وابتزاز البعض لهذه الموهبة ومحاولة تحميله الخطأ لكي يدفع هو أموالا طائلة بالملايين بسبب اختراق العقد الإعلاني، وصولا لتلك النظرة الفجة المبتذلة "فهم يرونه يكسب أموالا كثيرة، وطالما بيكسب يدفع". ما هذا المنطق الذي ينتمي للعصابات؟! ما هذا الابتزاز والتفكير اللا أخلاقي. وحتي مطالبته بأن يدفع أموالاً للبلد تحت مسمي الوطنية شيء فوق الاحتمال، وما قرأته عن مطالبات محافظة المدينة التي يعيش بها والد صلاح من تقديم تبرعات طيلة الوقت شيء مرفوض. يعني محمد صلاح لو كان بقي في مصر حتي الآن ولا كان عرف يحقق شيئًا من أحلامه ونجوميته الساطعة الآن والتي يشهد بها العالم، أساسا بسبب المناخ الحاضن "أعتذر أقصد المناخ القاتل".

أعلم أن الأمر به تطور وأن مأزق التقاضي في طريقه للحل، لكن بعد إيه؟ بعد أن أخذنا من طاقة وجهد وتفكير محمد صلاح وشغلناه بأمور لا تليق بما قدمه. يا عالم اتركوا المواهب تتنفس.

ونصيحتي لك أيتها القارئة والقاريء الكريم بألا تترك فرصة لحصارك، وأدعوك لأن تسافر كثيرا كلما استطعت إلى ذلك سبيلا،.. وأنتم قادرون على ذلك، وسأحكي لكم عن تجربتي في مقال قادم. والآن أتذكر معكم ما قاله جلال الدين الرومي: "مهمتك هى عدم السعي وراء الحب، بل أن تسعى وتجد كل الحواجز التي كنت قد بنيتها بينك وبينه".

إعلان

إعلان

إعلان