لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

أرقام أم موضوعات...؟

د. غادة موسى

أرقام أم موضوعات...؟

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:00 م الأحد 22 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

مما لاشك فيه أن أصعب مهمة هي أن تكون مسؤولا عن إدارة مال عام. لأن إدارته لا تشمل فقط إنفاقه، وإنما التفكير في كيفية إنفاقه وموضوعات إنفاقه وقيود إنفاقه والرقابة على إنفاقه.

ومعضلة إدارة المال العام هي التفكير فيه باعتباره رقماً وليس قيمة وهدفاً، لذلك انصب اهتمام المسؤولين على الأرقام أكثر من موضوعات وقضايا المال العام، مثلما انصب الاهتمام الأكبر بمخرجاته وليس بأثره. وهو الأمر الذي بدا واضحاً من العدد الكبير من الأرقام التي نقرؤها ونسمعها في تصريحات المسؤولين والخبراء. والأرقام في شكلها المجرد تبعث على الأمل وتبدو مبهجه وتُشعر المستمع سواء أن كان مواطناً عادياً أو مهتماً بالتفاؤل. ويتم تعزيز هذه الأرقام بالرسوم البيانية والتحليلات المتخصصة التي لا يفهمها سوى المتخصصين - على وزن اتساق وتكامل السياسات المالية والنقدية. ولا أحد ينكر أنها سياسات صحيحة ومطبقة وحتمية في إطار أية إصلاحات اقتصادية حقيقية، شأنها شأن إيجاد حوافز جديدة لتطوير هيكل الاقتصاد تهدف إلى زيادة معدلات الإنتاج والتنافسية.

كما ترتبط الأرقام لدينا بالحديث عن مناهج الإصلاح الاقتصادي مثل الإصلاح العادل والإصلاح المتدرج والإصلاح الشامل وغيرها من مناهج الإصلاح. ومن الطبيعي أن يعقب هذا الاستعراض الحديث عن النتائج المتحققة من جراء تنفيذ الإصلاحات السابقة على اختلاف أنواعها، ولكن لا يحدث ذلك كثيراً، إذ ما نلبث أن نعود مرة ثانية إلى لغة الأرقام المجردة والبعيدة عن الموضوع والمضمون. فيطالعنا المسؤولون بأن الأرقام المرتبطة بالإصلاحات الاقتصادية أسفرت عن تحقيق أرقام جديدة تمثلت- على سبيل المثال- في انخفاض معدلات البطالة إلى ١٠.٨ ٪ بدون تفسير وبدون موضوع متكامل يشتمل على السياسات التي ساعدت على خفض معدل البطالة في السنة الحالية، وبدون تنسيب هذه النسبة للنسب العالمية والإقليمية الجيدة وتلك التي تحتوي على مخاطر كبيرة، وبدون الإشارة إلى القطاعات التي انخفضت أو ارتفعت أو استقرت فيها معدلات البطالة، وأيضا بدون توضيح أنواع العمالة التي شهدت انخفاضاً او ارتفاعاً في معدلات البطالة: أطباء أم مهندسين أم مزارعين أم مرشدين سياحيين أم عمالة موسمية.

وهو الأمر الذي أغرى معظم المسؤولين بانتهاج ذات النهج في الاستطراد في سرد الأرقام المجردة والحديث عنها بدون ربطها بشكل واضح بموضوع متكامل يوضح الإنجاز الحقيقي لهذه الأرقام أو انعكاسها على الأرض وعلى المواطن. أو على علاقتنا بالدول الأخرى.

ومما لاشك فيه أن همزة الوصل أو كما يقول الأكاديميون "المتغير الوسيط" هو منظومة التخطيط. ففي عدم نشر والتعريف بالخطط وبناء منظومة واضحة لمتابعة تنفيذها قد يصعب الجزم بإمكانية وجود علاقة بين الأرقام وبين الموضوعات التي تعبر عنها.

يضاف إلى ما سبق منظومة إدارة المخاطر. فالأرقام تبدو وكأنها مستَقَرة ومنعزلة عن المحيط الدولي. فلا يكفي أن نطمئن إلى أن معدل النمو الحقيقي الذي حققته مصر تشيد به مؤسسات التصنيف الائتماني مثل فيتش أو ستاندرد آند بورز، ما لم تعبر هذه المعدلات عن نمو حقيقي في الإنتاج ووجود فائض تجاري وارتفاع حجم القوة الشرائية. وهنا لابد من الانتباه إلى المخاطر التي يتحسب لها العالم، ونحن مستمرون في الاكتفاء بالقياس بأدوات قياس تقليدية.

ومن أهم هذه المخاطر تلك المتعلقة بانخفاض حركة التجارة العالمية، والأزمات والضغوط التي تواجهها وضعف منظومات حلها، بالإضافة إلى اختراق العديد من القواعد والإجراءات التي استقرت حولها سياسات العولمة الاقتصادية. فأي انهيار قد يصيب حركة التجارة العالمية من شأنه خفض معظم الأنشطة الاقتصادية، ومنها تداعيات ذلك على معدلات الإنتاج والتشغيل. وهو نوع من المخاطر تضعه الدول الاقتصادية الكبرى نصب أعينها ونشهد نحن إرهاصاته في تأزم العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة الامريكية والصين. وبالتأكيد من شأن هذا النوع من المخاطر زيادة اللامساواة بين الدول النامية والآخذة في النمو، بل أيضا زيادة التوتر السياسي والبعد تدريجياً عن القواعد القانونية التي تحكم حركة التجارة العالمية، وتحكيم أدوات أخرى ليس من السهولة السيطرة عليها...

ويرتبط بما سبق عدم تنسيب معدلات النمو الحقيقية والتضخم إلى معدلات الابتكار. فلم يعد من الممكن فصل الأرقام الاقتصادية عن موضوعات الابتكار والتي بات يدخل فيها الذكاء الاصطناعي. هذا التطور تهرع إليه الدول المتقدمة وتستثمر فيه بالشكل الذي قد يهدد باقي الدول اقتصاديا وسياسيا، خاصة عندما يحل الذكاء الاصطناعي محل البشر في أداء العديد من المهام الاقتصادية والسيطرة عليها، بل قد يتم إزاحة الأفراد تدريجيا من الإنترنت وإضعافه بعد أن تحل منظومة الذكاء الاصطناعي محله.

أمر آخر يتطلب الانتباه بربط الأرقام بالموضوعات في إطار منظومة تخطيط تقوم على إدارة أنواع غير تقليدية من المخاطر ومنها الوفاء بمتطلبات تحقيق الأمن الغذائي... فالتداخل بين التغيرات المناخية ونقص المياه وعدم الاستقرار السياسي والآفات التي تصيب المحاصيل، وعدم التنويع في زراعتها ينتج عنه قصور في الإنتاج الزراعي في عدد كبير من دول العالم. مما يحفز ظهور أزمات سياسية واقتصادية في عدد من دول العالم، وبصفة خاصة دول العالم الثالث والدول الإفريقية تحديدا. وبالتالي تزايد المخاوف المتعلقة باعتبارات الأمن الإنساني. ونحن لسنا بمنأى عن المخاطر السابقة، ولابد أن تظهر ويتم تضمينها في التخطيط لموضوعات الزراعة والأمن الغذائي والتجارة وتطور استخدام التكنولوجيا وانعكاساته على كل ما سبق.

وعليه، فإن استمرار نهج التعامل مع الأرقام بشكل مجرد وبيقين تام وبعيدا عن موضوعاتها خطر يهدد التوجه الواقعي- البراجماتي في رسم السياسات والتخطيط، وينعكس أيضا على إمكانية فتح المجلات لوضع حلول قابلة للتنفيذ تضع في اعتبارها التطورات الدولية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهذا النهج مازال غائباً بشكل ملحوظ عن صياغة الخطط الاقتصادية والاجتماعية، حيث نجد تلك الخطط تتضمن موضوعات لا يُختلف عليها من في الداخل أو الخارج. فلا أحد يختلف على ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية والحماية الاجتماعية وحفز الاستثمار المحلي والأجنبي، فهي مسلمات. ولكن الأهم هو ماهية الأرقام الكفيلة بالاستجابة للموضوعات والقضايا السابقة وكيفية حسابها آخذاً في الاعتبار الواقع الفعلي ومنظومة المخاطر الحقيقية، وإلا صارت لدينا أرقام جميلة وطموحات واسعة لا تعبر عن الواقع ولا تتضمن حلولاً شاملة - سياسية واقتصادية واجتماعية - للموضوعات وللمخاطر التي تواجهنا.

إعلان