لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

أحمد عبدالمعطي حجازي.. حياة بلا قلب!

أحمد عبدالمعطي حجازي.. حياة بلا قلب!

خيري حسن
09:00 م السبت 24 مارس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

وصلت في ساعة مبكرة من ذلك الصباح الصيفي المضطرب من عام 2007 إلى المدخل الرئيسي لمعهد الأورم، سيئ الذكر، وكئيب المظهر والجوهر، بشارع قصر العيني. دلفت بصعوبة، إلى داخله، للوصول إلى العيادات الخارجية، أبحث عن صديق لي جاء ليكمل أوراق دخول أبيه للعلاج. أجساد البشر تفوح منها رائحة الموت، والعيون زائغة، والوجوه شاحبة، والقلوب تنبض بترانيم أغانٍ حزينة، ليست لها علاقة بالحياة. الزحام شديد، والمرضى أغلبهم فقراء، إما جاءوا من الريف في الدلتا والصعيد، أو من عشوائيات المدن، التي تحولوا فيها إلى نفايات بشرية.

وصلت إلى صالة كبيرة، واتخذت مكاني واقفاً، أتابع المشهد من قريب، وأستمع إلى الكلمات التي تخرج من أفواه المرضى، وهم يتحدثون إلى ذويهم بحروف يائسة، بعدما أدركوا أن بينهم وبين الموت "باباً" وهم في انتظار دخوله عليهم- دون استئذان- ليزهق أرواحهم المعذبة. لمحني من بعيد شاب أربعيني بجواره فتاة تصغره بأعوام. أشار لي بيده الواهنة، فذهبت إليه مسرعاً، وجلست بجواره، بعدما طلب مني ذلك. وقبل أن يتجاذب معي الحديث، جاء دوره للدخول للطبيب، وقفت الفتاة- التي عرفت بعد ذلك أنها زوجته واسمها سلوى- ثم وضعت يدها تسنده، بعدما رفضت بشدة أن أقوم أنا بذلك، وتحركت به نحو غرفة الطبيب القريبة منا، وهو ينظر لها ويبتسم!

بعد دقائق عادت، وجلست مكانها بجواري، ثم اعتذرت لي وهي تقول: هذا زوجي وحب عمري، ولا أقبل أن يساعده أحد، وأنا على قيد الحياة.. وأرجو أن تقبل اعتذاري. ابتسمت وقلت: يبدو أنها كانت قصة حب جارفة وصادقة بينكما. هزت رأسها، وهي تنظر لما معي من أوراق وصحيفة وديوان شعر اسمه "مدينة بلا قلب" وقالت: "هذا صحيح.. ولكن ماذا نفعل للمرض وقسوته؟ ثم ألقت ببصرها للسماء من خلال زجاج شباك مهشم خلفنا، وقالت: ما أقسى الحياة، عندما نواجه فيه مرضاً بلا قلب"! هذا المرض هو الذي سيحرمني من "مروان" قريباً. قلت: الحياة أعمار.. فلا تفقدي الأمل في رحمة الله. نظرت إلى باب الحجرة الذي مازال وراءه زوجها، وقالت: أصيب مروان بسرطان الرئة منذ سنوات، حيث كان يعمل عاملاً- وهو الحاصل على ليسانس الآداب قسم اجتماع- في محاجر منطقة "شق التعبان" شرق ضاحية المعادي، وتقدم لخطبتي، بعد قصة حب رومانسية حالمة، اشتعلت بيننا. ووافقت أسرتي عليه بصعوبة، بسبب تواضع مستواه الاجتماعي، وبعد ضغط مني شديد، وافقت الأسرة على الزواج، وقبل الفرح بأسابيع، جاءني حزيناً، والدموع في عينيه، والتحاليل الطبية في يديه، بعدما اكتشف حالته المرضية، وطلب مني الانفصال بهدوء، ليواجه هو مرضه وحيداً، رفضت بشدة، وأصررت على استكمال وسرعة إتمام الزواج، وطلبت منه؛ ألا يبلغ أحداً بحقيقة مرضه، وتحت الإلحاح الشديد مني وافق بصعوبة، وبالفعل تزوجنا. ومرت عدة أسابيع، كنا فيها في قمة الفرح والسعادة، في الوقت الذي كان فيه المرض يتحكم في جسده، وهو يقاومه بالصبر والدواء، وأنا أسانده بالحب والدعاء، وما بين المعهد وعيادات الأطباء، مازلنا نذهب ونعود!

قلت من أجل ذلك تقولين: إن المرض بلا قلب! قالت بعد فترة صمت، وعيناها على باب الحجرة التي خلفها زوجها: ليس المرض فقط الذي بلا قلب، بل كل شيء في الحياة، خلق ليحرمنا من الحب، هو أيضاً بلا قلب! من بعيد خرجت ممرضة ممتلئة الجسد، وأشارت لها بوجه عابس، فأسرعت إليها بلهفة، وسط زحام المرضى، حتى غابت عن بصري، وراء الأبواب المغلقة، على أنفاس الموت، ولم أعد أراها. هاتفت صديقي، واعتذرت له، عن عدم استكمال انتظاره، أكثر من ذلك؛ لأنني مرتبط بموعد سابق مع الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي.

(ولد في مدينة تلا بمحافظة المنوفية عام 1935، حصل على دبلوم المعلمين عام 1954، ثم حصل على ليسانس الاجتماع من جامعة السربون الجديدة عام 1978 والدراسات المتعمقة في الأدب العربي عام 1979، سافر إلى فرنسا عدة سنوات، وعمل أستاذاً للشعر العربي بجامعاتها. له عدة دواوين شعرية، أولها عام 1959 ديوان (مدينة بلا قلب).

غادرت المعهد مسرعاً، وحكاية "سلوى" و"مروان" والحب والسرطان، والموت والحياة، تستحوذ على تفكيري، وأنا في طريقي إلى منطقة مصر الجديدة شرق القاهرة حيث يسكن هناك. وصلت إلى العمارة، وصعدت إلى الدور الخامس، حيث لا يوجد بواب ولا أسانسير. استقبلني في شقته المتواضعة. بعد دقائق كنت في حجرة صغيرة، أبرز ما فيها صورة كبيرة معلقة للدكتور طه حسين. يومها تحدثنا في الثقافة والفنون والسياسية، وتوقفنا كثيراً في الحوار عند وجهة نظره في الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الذي هو- فيما يعتقد- سبب الدمار الذي أصاب الأمة العربية من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، مروراً بالنيل السجين منذ يوليو 1952، بعدما استولى ضباط يوليو على السلطة، ودمروا الحياة الحزبية، وقتلوا الحريات، ودفنوا الديمقراطية، وساندوا حكم الفرد، في مصر والوطن العربي بعد ذلك. هذا القهر هو الذي أضاع سيناء وأراضي عربية أخرى معها في عدة ساعات عام 67، ويكفي أن مصر يوم موت عبدالناصر كانت- ربما للمرة الأولى في تاريخها الحديث- عليها ديون تقدر بمليار دولار. قلت ولكنك أنت الذي كتبت ذات يوم في قصيدة لك عنوانها "مرثية العمر الجميل"، تقول في عبدالناصر: "واناصراه/ مالت رؤوس الناس فوق صدورهم/ وتقبلوا فيك العزاء/ واجهشت كل المدينة بالبكاء"، رد بتجهم واضح في ملامحه: نعم كان هناك حلم، وكنا جميعا نساند هذا الحلم الثوري الجميل، لكن بالدكتاتورية تحولت المدن، من مدن للإنسان إلى مدن لقتله، كما حدث بعد ذلك، تحولت من مدن للجمال، إلى مدن للأحزان. من مدن للانتصار إلى مدن للانكسار. من مدن للحياة إلى مدن للانتحار. هذه الأحلام تحولت إلى كابوس مميت. لقد تسببت هذه الأحلام في الستينات إلى انتحار أربعة من المبدعين "صلاح جاهين ومحمود دياب وصلاح عبدالصبور ونجيب سرور"، هؤلاء عاشوا حلم عبدالناصر، لكنهم انتحروا عندما قتل بداخلهم الحلم. ثم سكت طويلاً وكأنه لا يريد الكلام، فغيرت أنا مجرى الحديث وقصصت عليه حكاية الزوج مروان وزوجته سلوى، اللذين التقيت بهما مصادفة هذا الصباح، وأن الزوجة عندما رأت معي ديوانه "مدينة بلا قلب" علقت بأن المرض هو الذي بلا قلب. استمع للحكاية باهتمام وتركيز شديدين، ثم ابتسم وقال: انظر إلى قصة الحب الرائعة بينهما، هذا أجمل ما في كلامك اليوم معي، لذلك أرجو منك أن تعود إليهما مرة أخرى، لتعرف من الذي انتصر. هل انتصر الحب على المرض؟ أم انتصر المرض على الحب؟ أما فيما يخص ديواني مدينة بلا قلب.. فأنا في ذلك الزمن البعيد، أذكر أنني جئت للقاهرة، وأنا لا أحب المدن، فأنا ابن الريف الذي يرفض المدينة وترفضه، لأنني أرى الإنسان فيها ضئيلًا، والعمارات فيها عالية. أراها معادية للإنسان، حيث تبني نفسها على أشلائه.

بعد ساعة كاملة من الحديث معه، تركته وترجلت بجوار بيته في شوارع مصر الجديدة، أبحث في وجوه المارة عن سلوى ومروان جدد، يكون الحب عنواناً لحياتهما. توقف بالقرب مني مترو مصر الجديدة ببطء كعادته، في عربته الخلفية لمحت فتاة وشاباً يجلسان وعيونهما تمتلئ بالحب والشوق والغرام. يتهامسان في هدوء، ويتشاجران في صمت، ويتضاحكان في نشوة كبيرة. في نفس الوقت بدأ المترو يتحرك بطء، ليتطاير من نافذته شعر الفتاة الأسود الناعم ليداعب الهواء، مع ضحكات حبيبها التي يرسلها للسماء في سعادة واضحة، حتى غاب القطار عن بصري تماماً.

في اليوم التالي ذهبت مبكراً إلى المعهد، وتجولت ببصرى في العيادات الخارجية بحثاً عن سلوى ومروان. بعد عدة ساعات من الانتظار والبحث، لم أعثر عليها. صعدت إلى أقسام الجراحة والأمراض الصدرية.. تحركت في طرقة ضيقة، مكتومة الهواء. من بعيد لمحت الممرضة الممتلئة الجسد، التي استدعت أمس سلوى على عجل، ونحن في العيادات الخارجية. اقتربت منها وسألتها عنهما. نظرت لي بغضب وفي يدها ملفات وأورق مبعثرة كثيرة، وقالت: "سلوى" مين؟ و"مروان" مين؟ يا أستاذ.. هو أنا عقلي دفتر.. اتفضل عايزين نشوف شغلنا" ثم تركتني وهي تنطلق مسرعة، وجسدها البدين، يحدث دبيباً مزعجاً في المكان، ولا أعرف إلى أين تتجه. أما أنا فخرجت من باب المعهد المواجه لنيل القاهرة، حزيناً، وبداخلي أمل في أن ألتقي- ذات يوم- مع سلوى ومروان، في تلك المدينة التي بلا قلب!

إعلان