لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الاسم "حفلات توقيع".. والفعل "استغلال الناشر للكاتب"

د. عمار علي حسن

الاسم "حفلات توقيع".. والفعل "استغلال الناشر للكاتب"

د. عمار علي حسن
10:43 م الأربعاء 14 مارس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لم يكتفِ بعض الناشرين بإجبار روائيين وشعراء وكُتَّاب على "الدفع مقابل النشر"، حتى صار البعض يقول تهكمًا: "إنما سمي ناشرًا، لأنه ينشر رقبة المؤلف"، بل أمعنوا في استغلال الكُتَّاب إلى أقصى حد عبر ما تسمى "حفلات توقيع الكتب"، اللهم إلا من قلة يمكن لقراء لا تربطهم صلة بهم، ولا علاقة وجه لوجه، أن يشدوا الرحال إلى حفلات توقيعهم باحثين بالفعل عن رواياتهم أو دواوينهم أو كتبهم في مختلف ألوان المعرفة.

فما إن يخرج الكتاب من المطبعة حتى يلح الناشر على مؤلفه أن ينظم له "حفل توقيع"، ثم يغمز، ويلمز، ويرمز، ويسوق الحديث في اتجاه واحد يقول فيه للكاتب مواربا باب الكلام أو فاتحا إياه على مصراعيه: ادع أصدقاءك وعشيرتك الأولين. وهنا يبدأ المؤلف المسكين بدعوة أصدقائه على "فيس بوك" أو "تويتر" إلى حفل التوقيع، فيتسابق بعضهم على"تحبيذ" ما دعا إليه، لكن لا يأتي هؤلاء بالضرورة إلى الحفل، ليمعنوا في إثبات القاعدة التي تقول إن هناك فجوة كبرى ستظل قائمة بين "العالم الافتراضي" بتلاوينه، و"عالم الواقع" بسوداويته أو رماديته على أقصى تقدير.

ولأن بعض المؤلفين، ومن خلال خبراتهم السابقة، يتشككون في إمكانية أن تسعفهم مواقع التواصل الاجتماعي، فإنهم يلتقطون هواتفهم النقالة، باحثين عمن يمكن دعوتهم إلى الحفل، معولين على أن الدعوة الشخصية المباشرة أجدى نفعا من إطلاق دعوة عامة، يتنصل منها الكل، أو يكتفون بتحبيذها أو التعليق عليها بالعبارة المكررة "ألف مبروك".

هناك بالطبع دور نشر تعفي مؤلفيها من عناء هذه المسألة، وتقوم هي بالدعوة إلى تلك الحفلات، لكنها الأقل، بل إن بوسعنا أن نعدها على أصابع يدنا، أما الأغلبية، فإنها تقذف بالمسؤولية على كتف الكاتب، وتوشك أن تطلب منه أن يحمل كتابه على ظهره، ويدور به في الأسواق بائعا إياه للعابرين، ويجمع حصيلة ما باع به ليلقيها في جيب الناشر، وهو جالس خلف مكتبه، يتثاءب أو يتلمظ.

لكن مع تكاثر دور النشر في السنوات الأخيرة مثل الأميبا، وهو أمر مطلوب شريطة أن تكون فاعلة وحقيقية ولديها مشروعها، استفحلت هذه الظاهرة، بعد أن دخلت في صميم التعاقد الشفهي بين الناشر والمؤلف، حيث يتعهد الأخير، بعد دفعه تكاليف كتابه، بأن يشارك في الترويج والدعاية وفي التوزيع أيضا من خلال تنظيم حفل توقيع يدعو إليه أصدقاءه وأقرباءه ومعارفه جميعا.

وبعض هؤلاء المؤلفين، لاسيما الشباب الذين هم على باب الكتابة، يعرضون على بعض الناشرين حجم صداقتهم على "فيسبوك" أو "تويتر"، وهو ما حكته لي ناشرة لدار نشر كبرى قائلة: "جاءني شاب ومعه نص يقول إنه رواية، وعرضه عليّ، وهو يخبرني أن عدد متابعيه على "تويتر" يربو على الثلاثين ألفا، فابتسمت وقلت له: هل تضمن أن يُقدم واحد في المائة منهم على شراء كتابك؟ فأجابني: نعم. فهززت رأسي مستنكرة، وقلت له: هذا لن يحدث، كما أننا لا ننشر الكتب بهذه الطريقة، إذ لدينا لجنة للقراءة والفحص، وأخرى للتسويق والتوزيع، ولا ننشر أي نص إلا إن كان جيدا، ونضمن أن يقبل عليه القراء بما يحقق ربحا لنا، كي نستمر في السوق".

هذا الشاب إن كان أخطأ العنوان، فإنه لم يخرج عن المألوف الذي يقوم بين المؤلفين الجدد وبين دور النشر الصغرى، التي تجعل أغلب همها هو جذب أكبر عدد من صغار الكتاب، ليمولوا كتبهم مضافا إليها هامش ربح الناشر، قبل خروجها من المطبعة، ثم يدعون أصحابهم ليشتروا النسخ فتتضاعف أرباح الناشر، ويجد المؤلف الصغير نافذة يطل منها برأسه، ويقول: أنا كاتب، أو أنا روائي، أو أنا شاعر، وهكذا. وبلغ استغلال الناشر للمؤلف الصغير حد التدليس والسرقة أو النصب، إذ يوهم بعض الناشرين هؤلاء المؤلفين بأنه قد طبع كتابه "طبعة أولى" كاملة، بينما هو في الحقيقة لم يطبع سوى عدد محدود يوزع بعضه على باعة الصحف، ويعطي المؤلف أغلبه، والبقية تنتظر القادمين إلى حفل التوقيع.

ويشكو المؤلفون، بمن فيهم الكبار، على المقاهي أو على هوامش الندوات والمؤتمرات والمنتديات أو على "التراسل الخاص" بفيسبوك من الظلم الكبير، بل الإهانة التي يتعرضون لها بسبب حفلات التوقيع تلك، لكن يفضلون ألا تخرج شكواهم إلى العلن، ويتحول همسهم إلى صراخ، ولمزهم إلى قول صريح، خوفا من ألا تجد كتبهم طريقها للنشر فيما بعد.

وحين يسألني أي من هؤلاء: لماذا لا تنظم حفلات توقيع لكتبك؟ أجيبه على الفور: لكل الأسباب التي جعلتك تشكو. وأقص عليه كيف وقعت في الفخ مرة واحدة، حين دعتني ناشرة لكتاب لي إلى عقد ندوة عنه في مقر دارها، وبينما كانت الندوة تدور وجدت موظفا لديها يقف على الباب ويبيع الكتاب لكل قادم إلى الندوة، فوقفت غاضبا، وذهبت إليه، وطلبت منه أن يرد النقود إلى كل من دفع ولا يريد الكتاب حقا، أما من يريده فسأقوم بالدفع عنه من مستحقاتي لدى الدار، ومن يومها قررت ألا أنظم حفلات توقيع لكتبي، وإن كنت لا أمعن في لوم من يقدمون عليها، من كبار المؤلفين، تحت إلحاح الناشرين.

وقد لفتت حفلات التوقيع المبالغ في عددها خلال معرض القاهرة الدولي للكتاب في نسخته الأخيرة انتباه كثيرين، وبدا الأمر غير مستساغ، أو أنه زاد على حده، ولا بد أن ينقلب إلى ضده، وفق القاعدة المتعارف عليها. فخرج الروائي والشاعر "صبحي" موسى ليهجو هذا المسلك على صفحته بـ"فيسبوك" ويقول: "أشعر طيلة الوقت أن لدينا مشكلة في فهم فلسفة حفلات التوقيع.. فحين يوجه الكاتب دعوة ﻷصدقائه كي يحضروا حفل توقيع كتابه، فهي بمثابة إحراج لهم".

بالطبع فإن حفلات التوقيع تلك جاءت إلينا من الغرب، حيث دور النشر التي تتعامل مع الكتاب بوصفه "سلعة" مهما كان فيه من مضمون رسالي أو تبشيري أو جمالي، لكن دور النشر تلك تعفي المؤلف من حرج دعوة أصدقائه، كما يجري لدينا، وتقوم هي بتنظيم سلسلة من اللقاءات والندوات للمؤلف بعدد من المكتبات الكبرى والجامعات والمعارض، عقب إنفاقها الكثير على دعاية جاذبة لقراء مهتمين، فيأتون إليه راغبين في شراء كتابه بعد أن تكون الدعاية عن المضمون والشكل وعن الكاتب نفسه قد سكنت رؤوسهم. وفي كل مرة ينتقل المؤلف إلى مكان جديد لحفلة توقيع كتابه يجد قراء أو زبائن جددا، وليست الوجوه نفسها التي تتكرر عندنا في حفلات التواقيع.

إن هذه الفكرة التي ترمي في أساسها إلى الترويج للكتاب وتوزيعه، وهو أمر مطلوب حقا، حين جاءت لدور النشر لدينا مسختها وفرغتها من مضمونها، وبدلا من أن تقوم بما عليها من دور وجهد، فإذا بها تزيح التبعة على المؤلف، الذي عليه أن يأخذ من جيوب أصدقائه ومعارفه، بحد الحياء، ما يعطيه للناشر حتى يرضى عنه. ولأن أول ناشر قد فعلها وأفادته، ولو قليلا، فإنها راحت تنتقل إلى غيره حتى صارت ظاهرة سلبية آن لنا أن نتخلص منها.

إعلان