لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"ذات يوم"... سعيد الشحات يستدعي الماضي لمواجهة الحاضر

د. عمار علي حسن

"ذات يوم"... سعيد الشحات يستدعي الماضي لمواجهة الحاضر

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 21 فبراير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

منذ سنوات والكاتب الصحفي الكبير الأستاذ سعيد الشحات ينشر يوميات تاريخية تحت عنوان "ذات يوم"، جمعها في مجلدين كبيرين، والثالث في الطريق، وهي لا تتوقف عند حد استرجاع أحداث التاريخ الظاهرة كحكمة، أو عظة أو أمثولة، أو تحذير وتنبيه، أو نقد ولوم وتوبيخ مضمر للسلطة، أو المعارضة، أو جماعة المثقفين وقادة الرأي وعلية القوم.

وفي مسار العرب الأقدمين كانت للتاريخ وظيفتان، الأولى دينية أو شرعية، لاسيما في سيرة الرسول والصحابة، والثانية للإمتاع والمؤانسة، والعبرة التي تنطوي عليها الأخبار والحكايات. أما العرب المعاصرون فقد ظهرت للتاريخ لديهم وظائف أخرى، شأنهم شأن غيرهم، أما في الأدب فقد ذاع صيت الرواية التاريخية خلال فترات معينة من القرن الماضي، كمحاولة للبحث عن الذات القومية القوية المنتصرة، أو البحث عن دواء شافٍ للمحن التي تتعرض لها الأمة، أو لأجل التمني والحلم بالانتصار خلال فترات الانهزام، وتجاوزت ذلك في العصر الحالي، حيث أصبحت تجسّد قضايا عالمية معاصرة بإسقاط ذاك الماضي على الحاضر وتفسيره، حسبما تقول سليمة بالنور في بحثها عن الرواية التاريخية.

ولأن سعيد الشحات يمتلك بالأساس قدرة على السرد، ظهرت في كتابه الممتع عن أم كلثوم، أو في حواراته الشيقة مع كبار الأدباء، فإنه تمكن في يومياته تلك من أن يتخذ من أحداث الماضي مادة سردية، تعيد إلى الأذهان ما بين التاريخ والرواية من اتصال، لكنه هنا يفعل العكس، فبعض الأدباء يلجئون إلى التاريخ ووقائعه لكتابة رواية أدبية، أما هو هنا فهو يتوسل بالأدب أو السرد أو القص لعرض مادته التاريخية، وهي مسألة تبدو طبيعية لأن التاريخ ليس بوسعه أن يتجاوز الحكايات.

وشكلت الرواية التاريخية، إسهاماً قوياً في الدراسات التاريخية منذ أن نشأ هذا اللون من فن الرواية في مطلع القرن التاسع عشر، وإن كان هناك من يعود به إلى بعض كتابات القرن السابع عشر، وهناك من يعتبر الأعمال التي ظهرت في القرون الوسطى والمعدة للتاريخ الكلاسيكي مقدمات للرواية التاريخية، بل إلى قرون أبعد من ذلك كثيراً في ملاحم الهند والصين.

والرواية التاريخية هي في حد ذاتها إحدى أدوات تصوير التاريخ ‏الأكثر تفصيلاً وصدقاً، لأنها رواية تقرب الماضي إلينا، وتسمح لنا بأن نعيش وجوده الفعلي والحقيقي، حتى لو لم تتقيد بمعطيات التاريخ في كثير من الأحيان. فمطالعة رواية "الحرب والسلام" لتولستوي، و"ويفرلي" لوالتر سكوت، إلى جانب روايات الفرنسي ألكسندر دوماس، وروايات أدباء عرب مثل جورجي زيدان وعلي الجارم ومحمد فريد أبوحديد وسعيد العريان وجمال الغيطاني وعبدالرحمن منيف وواسيني الأعرج وأمين معلوف، تمنحنا ما هو أبعد مما سجله المؤرخون عن الحوادث والوقائع التي يرتبط أغلبها بالسلطة الحاكمة.

لقد تزامن صعود الرواية في أوروبا مع صعود "علم التاريخ"، واتكأ الاثنان على سعي الإنسان وراء جذوره، فتعاملت الرواية مع إنسان دنيوي متعدد الطبقات، ونقب التاريخ عن آثار الإنسان في ماضٍ تخلص من الأساطير التي تلتف حوله، وسار الاثنان على التوازي في ركاب التحولات الاجتماعية الكبرى بفعل الثورة العلمية والتقنية وصعود البرجوازية والنزعة القومية وصولاً إلى مجتمع جديد يناضل في سبيل الحرية والعدالة والمساواة، دون أن يتخلص من ادعاء "الرجل الأبيض" بأنه سيد العالم.

وفي عبارة شارحة للعلاقة بين الرواية والتاريخ يقول الناقد الكبير فيصل دراج: "يتوزع علم التاريخ والرواية على موضوعين مختلفين، يستنطق الأول الماضي، ويسائل الثاني الحاضر، وينتهيان معاً إلى عبرة وحكاية، بيد أن استقرار الطرفين منذ القرن التاسع عشر في حقلين متغايرين لم يمنع عنهما الحوار، ولم ينكر العلاقة بين التاريخ والإبداع الأدبي"، ففي حقيقة الأمر ظل يُنظر إلى التاريخ، ولقرون طويلة، على أنه نوع من الأدب يدرس للتسلية وإمتاع النفس واستلهام العبر، وذلك قبل أن يتحول إلى علم له منهج وأدوات للبحث فيه.

وقد بلغ إسهام الرواية في إجلاء التاريخ درجة متقدمة إلى حد أن يقول الدكتور قاسم عبده قاسم، وهو أحد المؤرخين العرب الثقات: "إذا كان السرد التاريخي والحكي الروائي ينبعان من نبع واحد، فإنهما يؤديان الوظيفة الاجتماعية– الثقافية نفسها أيضاً. فالرغبة في المعرفة رغبة إنسانية تكاد أن تكون رغبة غريزية لدى البشر. وإذا كان السرد التاريخي يلبي رغبة الإنسان على مستوى الفرد وعلى مستوى النوع في معرفة ما جرى في الماضي، ومعرفة أصول الأشياء والظواهر والجماعات البشرية، فإن الحكي الروائي يحقق المطالب الإنسانية في المتعة والمعرفة معاً. ولعل هذا ما يجعلنا نقول إن التاريخ يحمل في بنيته جزءاً روائياً مهماً وحياً مهما حاول المؤرخون حجبه وراء أستار الأكاديمية والتحليلات والمقارنات والهوامش وكل أشكال البحث العلمي وقوالبه. كما أن الرواية تحمل عناصر تاريخية واضحة في بنائها".

يبدو أن هذه المعاني مستقرة في ذهن سعيد الشحات، وهو يكتب يومياته التاريخية السردية، إذ تأتي أحياناً أشبه بقصة قصيرة، وإن كانت مادتها الاستعمالية محددة سلفاً، وبدايتها ونهايتها قد تكون معروفة، لكن لأن "التاريخ اختيار" فإن الكاتب يعالج كل واقعة بما اختاره لها من موضع في سياق جديد، هو سياقنا الراهن، الذي يجد كثير من الكتاب أنفسهم بحاجة إلى التحايل كي يمرروا ما يريدون قوله، تلميحاً لا تصريحاً، لأن المكان يضيق بالكلام الصريح والمباشر.

إن هذا العمل المهم، الذي تراكم مع الأيام، ليصير مجلدين قابلين للزيادة، ليس بوسعك أن تسمعه وتشاهده في برنامج "حدث في مثل هذا اليوم"، أو تطالعه على موقع "ويكيبيديا"، لأن سعيد الشحات، اختار الوقائع والأحداث بعناية، ليشاكس الحاضر وينبه الحاضرين، ثم صاغها بأسلوبه هو، وبالتالي أضاف إلى الفائدة متعة، صنعتها سلاسة الأسلوب وحضور المجاز وقبل كل هذا انفتاح المعاني على تأويلات شتى.

إعلان

إعلان

إعلان