لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

هدم التاريخ في الإسكندرية

هدم التاريخ في الإسكندرية

د. جمال عبد الجواد
09:00 م الجمعة 09 نوفمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لحين إشعار آخر، وانتظارا لثورة إدارية تنقل البيروقراطية المصرية من حال لآخر، فإن الفساد في المحليات هو مما هو معروف عن بيروقراطية المحليات بالضرورة. لو لديك شك في ذلك فعليك مراجعة جواز سفرك للتأكد من تاريخ آخر مرة شرفتنا فيها بزيارتك.

لكن المحليات في مدن مصر ليست متساوية في درجة فسادها، ولو أن هناك جائزة لأكثر المحليات فسادا، فهناك أسباب كثيرة ترشح محليات الإسكندرية للفوز بها. تنهار العقارات القديمة في كل مدن مصر، وفي هذا دليل على فشل بيروقراطية المحليات في جميع أنحاء المحروسة؛ فالعقارات القديمة، التي تمثل خطرا على حياة الناس لابد من هدمها، وليس تركها حتى تنهار فوق رؤوس سكانها وجيرانهم، ورؤوس عابري السبيل الذين يلقي بهم حظهم العاثر في طريقها.

في الإسكندرية لا تنهار العقارات القديمة وحدها، وإنما العقارات الجديدة أيضا. لو قمت ببحث على شبكة الإنترنت عن العقارات الجديدة التي تنهار فستجد أنه فقط في الإسكندرية تنهار العقارات الجديدة كما لو كانت قديمة. شيء محزن، لكن الأمر المحزن فعلا هو المؤامرة التي تتولى تنفيذها دوائر الفساد في محليات الإسكندرية بالتعاون مع عدد من أغنياء المقاولين لهدم التراث المعماري أوربي الطابع المميز لمدينة الإسكندرية، ولإقامة أبراج شاهقة ومجمعات تجارية محلها.

تم هدم فيلا أمبرون في حي محرم بك، والتي كانت ببرجها الشهير علامة من علامات الحي والمدينة كلها. في هذه الفيلا عاش الكاتب الشهير لورانس داريل، وفيها كتب روايته المعروفة برباعية الإسكندرية، والتي خلدت الإسكندرية الحديثة، ووضعتها في قلب الشرق الأوسط متعدد الأعراق والقوميات والديانات. في مدينة تديرها بيروقراطية محترمة، كان من الطبيعي لفيلا كهذه أن تتحول إلى متحف للكاتب الكبير، ومركز ثقافي تنظم فيه العروض والندوات. كان يمكن لمركز ثقافي يحمل اسم لورانس داريل أن يتحول إلى نقطة جذب لكتاب ومثقفين وسياح تعود بالمكسب المادي وتثري الحياة الثقافية في المدينة. لكن مشروع كهذا يحتاج إلى تفكير وتدبير ودراسة وخبرات غير متوافرة لدى المقاولين والبيروقراطيين، الذين من سماتهم أنهم لا يحبون أصحاب هذه الخبرات من المثقفين، ولا يطيقوا سماع سيرتهم، فينتهي بهم الأمر للقيام بالأشياء التي يجيدون بنائها: هدم المباني ذات القيمة الاثرية والتاريخية، وبناء برج سكاني محلها.
فيلا الدكتور مفيد أبو الغار التي ألف فيها العبقري أسامة أنو عكاشة مسلسل "الراية البيضاء" قبل ثلاثين عاما، تم هدمها بعد أن قاومت التتار لأكثر من عشرين سنة. أحداث كثيرة تبرر الحفاظ على هذه الفيلا، فهي الفيلا التي بناها وعاش فيها عثمان باشا محرم شيخ المهندسين المصريين، وفيها تم تصوير فيلم أبي فوق الشجرة. فيلا آل تقلا مؤسسي جريدة الأهرام تم هدمها خلسة؛ وبقدر ما الأهرام يعد ذاكرة للمصريين وجزءا من تاريخهم منذ النصف الثاني في القرن التاسع عشر، بقدر ما لهذه الفيلا من أهمية. فيلا حافظ عفيفي باشا في منطقة ستانلي تم أيضا هدمها. كان عفيفي باشا وزيرا لخارجية مصر، ومندوبا لها في مجلس الأمن في العصر الملكي الليبرالي، لكن يبدو أنه من غير المطلوب الإبقاء على أي شيء يذكرنا بهذه الأيام.
أكثر من 55 مبنى مصنف ضمن التراث المعماري للإسكندرية تم هدمها خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة. الطريق لهدم هذه المباني بات معروفا حتى لصغار المحامين. دعوى قضائية تستفيد من ثغرة في القانون، يصدر على إثرها القاضي حكما بإخراج المبنى من قائمة التراث التاريخي والمعماري. ثم تبدأ عملية تقويض المبنى وتحويله إلى مصدر تهديد لأمان الناس، لتتولى البيروقراطية الفاسدة بعد ذلك إصدار تصريح بالهدم يعقبه تصريح بالبناء.
لماذا تتفوق الإسكندرية على المحافظات الأخرى في فساد المحليات؟ هل للأمر صلة بأن السلفيين يمثلون أقوى التيارات السياسية في مدينة الإسكندرية؟ وهل له صلة بالاختراق الذي قام به سلفيو الإسكندرية لأجهزة الدولة؟ السلفيون يكرهون الحفاظ على المباني القديمة، ويدعون أن في الحرص عليها شبهة تقديس تخل مبدأ التوحيد. لقد هدموا قبابا ومساجد وأضرحة وبيوتا في ذروة صعودهم في أرض المسلمين المقدسة، ومن يفعل ذلك لن تعز عليهم بضع عشرات من الفيلات والمباني في الإسكندرية. لا بديل عن التحرك السريع لتحرير الإسكندرية من قبضة الفساد والسلفيين.

إعلان