لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

رواية "البرتقالة والعقرب".. مرض خطير يلفه الخوف والغربة

رواية "البرتقالة والعقرب".. مرض خطير يلفه الخوف والغربة

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 10 يناير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تحتاج رواية "الواقعة" الوحيدة إلى حفر في المكان، حتى يكتمل بنيانها، وتتعمق رؤيتها، وتتوالى أحداثها، دون أن تسقط في فخ التكرار والملل أو تشرد بعيدا عن مجرى الحكاية، وجوهر الفكرة المصوغة فنيا، ولهذا فإن كاتبها يجب أن يتمتع بيقظة شديدة حيال التفاصيل التي عليه أن يسجلها وقت حدوثها، أو يستدعيها من الذاكرة إن كان زمن طويل قد مر عليها، لتعينه على أداء مهمته الصعبة التي لن تتم إلا بكتابة السطر الأخير من الرواية.

هكذا بدت لي رواية "البرتقالة والعقرب" للكاتب والمترجم المعروف الأستاذ طلعت شاهين، فهي تتخذ من مرضٍ، وضَع راويَها وبطلها على حافة الموت بعد أن اضطر إلى الدخول إلى أحد مستشفيات مدريد لإزالة ورم حميد بالرأس، بحجم برتقالة، فكان له أن يعيش طقوس المقبلين على الرحيل عن الدنيا، ثم أولئك الذين يعودون من الموت، أو هكذا يتصورون، ليدركوا أن الحياة بها ما يستحق العيش من أجله: الأصدقاء والكتب والزوجة التي تتقلب بين وصال وفصال، والأحلام التي لم تتحقق بعد، وذكريات لا تزال حاضرة في أيام الطفولة والمراهقة بصعيد مصر، ثم فترة التجنيد والحرب، ما جعل بطل الرواية يعيش على حافة الموت أيضا.

تأخذ الرواية شكل الدفقات أو المشاهد المتتابعة، التي تبلغ واحدا وعشرين مشهدا، متوسلة بطريقة الاسترجاع، التي يعتمد فيها الراوي على الذاكرة والخبرة والوعي في استعادة أحداث الماضي البعيد والقريب، ليلقيها في مجرى الحكاية، فتتسع قليلا، وتتعمق أيضا، ولا سيما أنها لا تأتي هكذا بلا ترتيب، أو دفعة واحدة، إنما تتوزع على المواقف الآنية، بحيث يرتبط كل موقف بما يناسبه مما جرى في سالف الأيام، فيضيف إليه تفاصيل أخرى، أو يساعد في تفسيره وتأويله، أو يبرر تصرفات البطل- الراوي، التي قد يعتقد من لا يعرف ماضيه أنها غير مبررة، وهي مسألة تبدأ منذ لحظة الإفاقة في غرفة العمليات التي تبدأ فيها استعادة ما جرى من قبل، عبر سؤال: "أين أنا؟"، وهو سؤال يتململ في داخل الراوي- البطل، لكنه رأسه "لم يكن يمتلك سوى أن يستعيد بعضا من الماضي، وأن يجدد مشاهد ربما تكون استعادة لعقود مضت".

تبدأ الرواية بلحظة الذروة، التي يعود فيها البطل من الموت الافتراضي، وهو ممدد في غرفة الإفاقة: "أحسست بجسدي خفيفا، لكن الجفن كان ثقيلا، ضوء خافت وأصوات بعيدة تتوه في بياض الجدران والستائر والأسقف" لتعود بنا إلى الظروف التي مر بها البطل منذ شعوره بالمرض، وسعيه لاكتشاف طبيعته، ثم خضوعه لجراحة عاجلة، لا مفر منها. وفي كل هذه المراحل أو المحطات تختلط مشاعر الخوف بالانطباع عن حالة الطب في مصر، مقارنة بما هو موجود في إسبانيا، ويتوالى وصف حالات المرض والمرضى، وطقوسهم العجيبة من أجل التغلب على الأوجاع، والتمسك بأهداب الحياة، وما يفعله ذويهم وكذلك الممرضات والأطباء المكلفون بمتابعة حالاتهم، لتبدأ رحلة الغوص في دواخل النفوس، بعذاباتها وآلامها وآمالها في الشفاء، التي تتجلى في حديث النفس إلى ذاتها، أو الهذيان، أو مخاطبة الفراغ، للتزجية والتسلية والسلوى، وفي كل هذا تظهر الفروق بين ثقافتين، من خلال رجل شرقي لا يريد أن يبول في فراشه، ويتحامل على نفسه كي يذهب إلى المرحاض، رغم أن هذا يعرضه لخطر داهم، ويواجه مصيره برباطة جأش، إذ يقول لنفسه: "كنت شخصا آخر ينتظر نتيجة ما، ولا يهم ما يأتي به المجهول: ما الفارق بين الموت في غرفة العمليات اليوم، والموت في البيت أو الشارع بعد ثلاثة أشهر أو حتى سنة ما لم يتم إجراء العملية الجراحية"، ولهذا كان عليه أن يفرد فصلا من روايته تلك بعنوان "التحدي".

في المقابل، نجد رجلا إسبانيا يدعى أماليو مصابا بعرق النَّسَا، يُسمح له أن يضاجع فتيات هوى في غرفته لأن هذا يسهم في تعافيه، ورجلا مصابا بسرطان تنتظر ابنته موته حتى ترثه، وآخر يدعى خاثينتو يكلم ربه بلا واسطة، ويسأله عن الموت كي يتخلص من عذابه: "وأنت ماذا تريد مني أكثر من هذا، جسدي لا يحتمل تعذيبك لي ليلا ونهارا. لا أريد أن أبقى هنا. لو كنت تريد عذابا لي أكثر من هذا، خذني إلي حيث توجد جهنم، التي تحدثنا عنها في كتابك المقدس، عذابي هنا أكثر مما يحتمل".

ويجد الراوي- البطل نفسه، وهو يسمع إلى أنين وحكايات مرضى يشاطرونه الغرفة أو يجاورونها، في حاجة ماسة إلى استعادة ماضيه، ليلقي منه بعض الحكايات الصغيرة في مجرى الحكاية الأصلية، فنعرف سر خوفه من العقارب، في بيته القروى البعيد بصعيد مصر، وفي قلب الصحراء خلال فترة تجنيده، وكيف كان يهابها أكثر من رصاص العدو وقت الحرب، فيفضل النوم فوق عربة مكشوفة، ليصير هدفا سهلا للرصاص على النوم في الخنادق التي يمكن أن تزحف إليها عقارب الصحراء السامة الجائعة، وقد وصل به حد الخوف منها إلى أن صارت هاجسا دائما، أو رهابا مزمنا (فوبيا)، يقول عنها: " لم تكن العقارب تطارد راحتي ليلا فقط، بل كانت أيضا تمنعني من الاقتراب من أي مكان يحتمل أن تصل إليه، حتى لو كان مجرد احتمال، حقيقة أو وهما، وحقائق العقارب كانت في كل مكان، حتى في ميدان التحرير الذي كان يغلي بالثورة".

وهنا يتحقق الطرف الأول من عنوان الرواية، حيث يصبح الخوف من العقارب معادلا للخوف من ورم بحجم برتقالة، يستقر في الدماغ، ويبحث عن مشرط جراح ماهر كي ينتزعه على مهل، وحين يحدث هذا على نحو دقيق، تبدأ رحلة المعاناة مع الأوجاع والنقاهة والذكريات المؤلمة والنظرة التي لا يريد التفاؤل أن يغادرها حيال المستقبل.

ومع الطرفين: البرتقالة، والعقرب تمضي الرواية لتبدو كأنها سيرة ذاتية روائية، سواء لصاحبها أو راويها أو بطلها، ممزوجة بسيرة المرض الذي يقاسم الراوي البطولة، ويتبادل كل منهما المواقع والمواضع طيلة السرد الذي يفجر طاقات في الواقع المعيش، أو اللحظة السحرية لحالة المرض وتداعياته، لتنتج لنا غرائبية يصنعها رجل على حافة الحياة، أو هكذا ظن وقت أن عرف بمرضه، وهو يغرق في أحاسيسه الداخلية، أو يتأمل من حوله من مرضى، أو يعود تدريجيا من الغياب تحت وطأة المخدر إلى الوعي، أو يمضي في فترة النقاهة، التي يواجه فيها "واقع مزدوج، واقع حقيقي نهارا يتحول ليلا إلى ما يشبه الهلاوس والخيالات التي يجمح خلالها العقل ويتخيل أشياء، رغم أني ما زلت أتذكرها كواقع"، ويبدو له "مشاهد تمر عبر قضبان أو سد عشبي يخفي منها أكثر مما يظهر"، أو "تبدو مشوشة ومختلطة بهيولية، مثل الرخويات المائية"، أو تبدو "عيونا كثيرة منتشرة في سقف الغرفة المراوغ كخلايا ضوئية" أو "نجوم بعيدة تمتد في الأفق".

لا تترك الرواية وأنت تمضي في سطورها التي تتهادى في عفوية وبساطة آسرة دون أن تتعاطف مع بطلها، ولا سيما إن كنت قد مررت بتجربة مماثلة، وتجد أمامك كاتبًا تمكن من رصد تجربته بدقة، ساردا تفاصيلها بحميمية، تجعلك تشعر أحيانا أنه تعاطف مع مرضه، أو مع البرتقالة التي كانت تسكن رأسه، وأهداه انشغاله بها، ورغبته في التخلص منها، ونجاحه في هذا، رواية لافتة.

إعلان