لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

فتاوى تحت الطلب

فتاوى تحت الطلب

محمد شعير
09:32 م الخميس 16 نوفمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يحكي طه حسين في "الأيام" أن الخديوي عباس كامل طلب أن يلتقيه بعد حصوله على دكتوراة الجامعة المصرية. في اللقاء سأله الخديوي عن خططه المستقبلية. أجابه العميد: أنه يفكر في السفر إلى باريس لدراسة الفلسفة أو التاريخ. صاح الخديوي: "إياك والفلسفة.. فإنها تفسد العقل.. والذوق أيضا"!

ومضى الأمير يحكي أنه سافر منذ عامين إلى باريس واستقبله الطلبة المصريون الدارسون هناك، كانوا جميعاً حاسري الرأس يمسكون بقلانسهم، إلا واحداً منهم كان يمسك طربوشاً في يديه… وعندما سأل عن الفتى حاسر الرأس قيل له إنه منصور فهمي، وإنه يدرس الفلسفة، فصاحب الطربوش لا يرفعه عن رأسه ولا يأخذه بيده حين يلقى الخديوي، وصاحب القلنسوة لا يتركها على رأسه وإنما يأخذها بيده في مثل هذا المقام، ولكن صاحبنا كان يدرس الفلسفة!

مائة عام كاملة انشغل فيها الفقهاء حول مدى إلزامية تغطية رؤوس الرجال وشكل غطاء الرأس. دارت القضية دورة كاملة ما بين تحريم وإباحة. انتصرت العمامة فقهيًّا على البرنيطة "رمز الغرب"، لكن العمامة خسرت رونقها بفعل الطربوش "رمز الحداثة"، ثم فقد الطربوش موقعه لصالح البرنيطة. وفي النهاية، حسم جمال عبدالناصر في 1955 القضية بإلغاء الطربوش. انتصرت رؤوس الرجال الحاسرة على جميع أشكال الزي، وصار خروج الرجال إلى الشارع حاسري الرؤوس ليس "حراماً" أو "بدعة"!

مائة عام أخرى انشغل فيها الفقهاء بحرمانية شرب القهوة، بعد أن أفتى الشيخ السنباطى، أحد شيوخ الأزهر، بحرمة شربها لأنها نوع من الخمر، وكان المحتسبة يطاردون من يشربها، لكن المصريين تحدوا القرار، وتمسك بها المتصوفة حيث كانت تمنحهم طاقة للسهر لذكر الله، وانتشرت في تلك الفترة تجارة البن والقهوة بشكل أكبر في القاهرة، إلى أن خطب أحد الأئمة في الناس مفتياً بتجديد فتوى التحريم والدعوة إلى منع تجارة البن وبيع وشراء القهوة، خرج الناس من المسجد إلى أحياء التجار ووقعت معركة ما بين مؤيدي التحريم وبين التجار، كانت نتيجتها موت خمسة أفراد من تجار القهوة، وانتهى الأمر بتدخل السلطان العثماني الذي قام بتعيين مفتي جديد هو الشيخ محمد بن إلياس، الذي أصدر فتوى بعدم حرمة شرب القهوة بعد أن أمر بصنعها في منزله في حضور جمع من العلماء واختبر تأثيرها وأقر شربها، واعتبرها "خمر الصالحين"، وفي عزاء من ماتوا دفاعاً عن القهوة قام الأهالي والتجار بتقديم القهوة السادة في أحياء القاهرة، وذلك لكسر فتوى الشيخ السنباطي وتأييد الشيخ محمد بن إلياس!

في سنة 1962، بدأ عبدالناصر سلسلة من القرارات الاشتراكية، تبارى الشيوخ في إثبات "اشتراكية" الإسلام، لم يعدموا نصوصاً تؤكد ذلك، وراحت الفتاوى تعلن ألا تعارض بين الاشتراكية والدين، بل إن الإسلام دين اشتراكي بالأساس.. وتبارى المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في إصدار الكتب التي تؤيد وجهة النظر تلك، وكانت شخصية أبو ذر الغفاري هي الشخصية النموذجية التي يدرسها طلاب المدارس وتم تقديمه باعتباره الاشتراكي الزاهد، و"أول اشتراكي في الإسلام". سنوات قليلة ويرحل عبدالناصر ويتجه السادات إلى المعسكر الآخر، النقيض، ليتجه الشيوخ أنفسهم أيضا إلى إثبات عكس ما أعلنوه من قبل، الإسلام كدين يحفظ الملكية الخاصة ويحرص عليها، ولم يعدموا نصوصاً وفتاوى يقدمونها لإثبات وجهة النظر تلك.. ولا سيرة شخصيات تؤيد وجهة نظرهم تلك.

هكذا- في لحظة- يتحول الحلال إلى حرام، والحرام إلى حلال، فالدين حمَّال أوجه، كما يقول الإمام على، وأصل المتعب مهارة قرد، كما يقول نجيب محفوظ على لسان أنيس زكي في ثرثرة فوق النيل"، وهؤلاء شيوخ دائماً تحت الطلب، لا ينطلقون من منهج فكري ثابت أو حتى منهج يتحرك بحكم الزمن والتطور بقدر ما يقدمون فتاواهم حسبما تريد السلطة في كل زمان ومكان. هل قيادة السيدات للسيارات حرام؟ حرام، لأن السلطة تريد ذلك. هل هي حلال؟ بالطبع هي حلال، لأن السلطة أيضاً تريد ذلك.. التغيير الحقيقي أو التجديد في بنية الدين أو التديّن يحدث حسبما تريد السلطة، وأنت وحظك هل هذه السلطة مستنيرة في لحظة، أم تتميز بأفق ضيق. كل التغيرات التي حدثت في بنية المجتمعات العربية خلال المائة عام الأخيرة، وربما منذ تأسيس الدولة الحديثة، لم تحدث نتيجة مراجعة حقيقية للماضي بأفكاره الجامدة، ولا حدثت نتيجة حركة المجتمع. كل التغيرات تحدث نتيجة ضغوط خارجية، أو نتيجة ما تريده السلطة في تلك اللحظة، والشيوخ الذين يتحدثون عن "حق الله" أو يعتبرون أنفسهم ظلَّـه على الأرض، سرعان ما يغيرون خطابهم إلى أن الأفضل هو ما تراه السلطة في مصلحة البلاد والعباد.. وهى أيضا قاعدة فقهية يتناساها أو يتذكرها الفقهاء وقتما يشاءون!

إعلان