لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الهمجية.. وراثة أم سلوك مُكتسب..؟

محمد أحمد فؤاد

الهمجية.. وراثة أم سلوك مُكتسب..؟

02:56 م الأحد 28 أغسطس 2016

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم- محمد أحمد فؤاد:

هل يعاني بني العرب من الخلل المجتمعي بشكل مرضي في شتى مناحي الحياة..؟ وهل تجدهم يتجاهلون وضع التسمية الصحيحة لهذا المرض لأنهم أدمنوا على اللجوء للتشخيص الخاطئ هرباً من حقيقة واقعهم..؟ أحسب أن هذا حقيقي، والسبب الرئيسي وراء هذا الخلل هو طغيان حاد لسلوكيات اجتماعية مغلوطة تمارسها جماعات وأفراد وتتراوح بين همجية وعشوائية، وقد جاء تفاقمها وانتشارها بوضوح مؤخراً على السطح بشكل ملفت في كافة أرجاء المعمورة حيث يعيشون أو يستوطنون..!

ما يهدف إليه كاتب تلك السطور هو ليس تحليل سلوكي، لكنه محاولة للوصول إلى التشخيص السليم لمعرفة ما أدى بالمجتمعات العربية لهذه الهوة الحضارية السحيقة التي جعلت ثقافاتهم في حالة تنافر دائم مع الثقافات الأخرى، أو على أقل تقدير جعلتها محل انتقاد دائم يصل لحد الرفض بقبولها.. هل جاء هذا بفعل مؤامرة كما يحلو للبعض التأويل؟ أم أنه نتاج لتراكم موروث مغلوط من المعتقدات والأفكار الرجعية البالية أدت إلى تلك الحالة السلوكية المتدنية وفقدان أبسط قواعد الإنسانية وهي الاحترام..؟

في علم الإنسان "الإنثروبولوجيا العامة" هناك فرع جاء فيه ما قد يفسر تلك المتغيرات التي طرأت على علاقة الغرب بالشرق على المستوى المجتمعي في ظل الأوضاع السياسية الحالية، فالأول كان قد حدد علاقته بالمناطق البدائية "ممالك الشرق الأدنى" التي تحولت لاحقاً إلى مستعمرات في عصور النهضة من خلال ثلاثة وسائل، هي التجارة أو التبشير أو الاستعمار.

وقد أتت الحاجة المُلحة لفهم طبيعة شعوب تلك المناطق وفك رموز ثقافاتها البدائية طمعاً في إحكام أبدي للسيطرة، حيث كانت تلك الحاجة مرتبطة دائماً بما تقتضيه مصالح الطرف الأول وليس بالضرورة مساعدة تلك الشعوب وإعانتها على اللحاق بركب التقدم والحداثة، أو تطوير سلوكياتها البدائية.. لهذا نشأ هذا الفرع الجديد من الإنثروبولوجيا لدراسة مسألة التواصل مع تلك الشعوب ومعضلات إداراتها وتصريف شؤونها وأوجه تحسينها، ويُدعى هذا الفرع "الأنثروبولوجيا التطبيقية" والذي أظن أن نتاج لأبحاثه الهامة تولدت ازدواجية في الرؤية لدى الطرف الثاني، وأصبح يعتنق نظرية المؤامرة بشكل مريض، بمعنى أدق بات رافضاً للتغيير والتطور السلوكي، وقرر الاستمرار دون أن يبذل جهد كاف ومناسب ليحقق توازن في علاقاته مع الطرف الأول الأقوى فكرياً وتطبيقياً وليس مجتمعياً.. ومع التحول السريع في موازين القدرات الاقتصادية بفعل ظهور النفط وما واكبه من ثراء ورغد، حلت ملامح الشراهة والإسراف والبذخ والتعالي والطبقية لدى العرب محل تراث من قيم الاحترام والجود والكرم وانكار الذات، وهو الأمر الذي أظنه أدى إلى وجود تلك الحنقة والكراهية والعصبية المتبادلة بين حضارات الغرب والشرق في صورها العنيفة الحالية.

نتيجة لمسلسل طويل من الإخفاقات، تضافرت فيه عوامل التدخل الخارجي وتواطؤ الأنظمة الشمولية الحاكمة، عانت منطقة الشرق الأوسط إلى اليوم من عواقب الهمجية على ثلاث جبهات رئيسية.. فهناك جبهة الأنظمة الوراثية الحاكمة القائمة على المحسوبية والتبعية وهي مستمرة بفضل سياستها المعتمدة على اغتيال الحريات داخل مجتمعاتها لحسابات شخصية بحتة، وهناك جبهة المواجهة مع العدو الصهيوني التي باتت تجني ثمار مُرة لعمليات استنزاف ممنهج حتى صارت القضية الأهم وهي قضية فلسطين في مذيلة قائمة الاهتمامات بعد أن كانت يوماً تتصدر أولويات العالم العربي برمته..وهناك جبهة السياسة الدولية التي مكنت الدول الاستعمارية الكبرى على اختلاف توجهاتها من توطيد احتلالها وفرض هيمنتها على الشرق الأوسط من خلال وسطاء الشر الذين ساهموا بإقتدار في إنجاح مخطط التقسيم الجهنمي، هذا الذي تتبدى ملامحه الأن وبوضوح في حالات التشرذم والانقسام في أراض العرب من أقصاها إلى اقصاها.

وقد ظل التاريخ المعاصر للدول العربية متسماً بانفصال ملحوظ بين الحكام والمجتمع، بفرض مسافة شاسعة بين الحاكم وحاشيته من جهة وبين طبقات الشعب المختلفة من جهة أخرى، لهذا ظهر نمط جديد من العنصرية والطبقية لم يكن مطروحاً من قبل، ورغم أن الرعيل القومي الأول هو الذي أسس للحكومات المتسلطة ولنموذج اقتصادي اجتماعي قائم على الوصاية برهن منذ بداياته الأولى على استحالة تطبيقه، فإن هذا الرعيل هو نفسه الذي قدم منظومة من القيم ساعدت على تعبئة معظم الشعوب العربية التي وجدت في هذه المنظومة ما يعبر عنها.. وهكذا استمدت هذه المجتمعات مُثلها العليا في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي من النزعة القومية ذات التوجه التنموي، ومن الاشتراكية القائمة على المساواة، ومن الوحدة العربية ومناهضة الإمبريالية، حيث تبلورت جميع تلك العناصر في بوتقة الصراع ضد العدو الصهيوني.

غير أن منظومة القيم تلك بدأت في أواخر سبعينيات القرن الماضي في التداعي، وبدأت تعاني من أزمة ناتجة عن الإخفاق المتواتر الذي واكب التحول المجتمعي الدراماتيكي الذي أنتجته سياسات الانفتاح الاقتصادي غير المنضبطة.. فقد قاد النموذج الاقتصادي القائم على الوصاية إلى الإفلاس، كما أدى تكدس الوظائف غير المنتجة إلى إعاقة النمو، إذ تضخم القطاع العام ونشأ عن الدولة البرجوازية نظام قائم على شبكات الفساد، أما الاشتراكية القائمة على المساواة فقد ظهر عجزها عن الصمود أمام القدرات النفطية المذهلة، واخفق هاجس الوحدة العربية في كل محاولات التعبير عن نفسه، وذلك بالطبع نتيجة للوهن الذي ألحقته به المصالح السياسية النازعة إلى الهيمنة لدى الأنظمة العربية المختلفة.

بالإضافة لما سبق، فقد عمدت الأنظمة العربية إلى تطبيق سياسة ثقافية قائمة على الوصاية الفكرية والمحسوبية، وتشبثت بالسلطة بواسطة ممارسات سياسية قمعية ومتسلطة جعلتها عاجزة عن تحقيق أي تنمية مجتمعية حقيقية أو إصلاح اقتصادي واقعي، وجعلتها غير قادرة على ممارسة الحكم بتجرد وشفافية في أغلب الأحوال.. وتعود أصول هذا النظام السياسي ممتد الجذور إلى دور المشروعية التاريخية التي قامت عليها تلك الدول عقب سنوات الاستعمار، فالقادة القوميون الذين حققوا الاستقلال سرعان ما استغلوا نشوة التحرر من الاستعمار، ونَصَّبوا من أنفسهم آباء للوطن، فأسسوا بهذا لنموذج لا يختلف كثيراً عن ممالك الإقطاع، وهو الدولة القومية الحديثة التي أصبحت بعد ذلك ملكاً خاصاً لهم ينتقل بالتبعية إلى ورثتهم.

وبالإضافة إلى هذا السياق المفتقر إلى ملامح أي استقرار حقيقي، ثمة عامل أساسي أخر، وهو عامل الأيديولوجية الذي ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار.. فأزمة منظومة القيم التي كانت مصدراً للتعبئة لجيل ما بعد الاستعمار وبدأت في التداعي في سبعينيات القرن الماضي تفاقمت لدى الجيل الحالي، الذي لم يجد ذاته مطلقاً في تلك القيم، وتعارضت توجهاته مع جيل الآباء الذين ربما عاشوا لحظة وجيزة من التفاؤل كانوا خلالها يراهنون على إمكانية تحقيق التنمية في كنف دولة الوصاية، وكانوا يؤمنون أيضاً بأن التعليم الجيد هو سبيل واعد نحو تحسين الظروف الاجتماعية.. ونتيجة لهذا، نمت هوة ثقافية تفصل الجيل الجديد عن حكامه، فالمتعاقبون على السلطة مازالوا ينتهجون نفس الثقافة السياسية المناوئة لأي شكل من أشكال المشاركة في الحكم، وهم لم يقدموا أي منظومة بديلة للقيم كفيلة بتعبئة الأجيال الجديدة.

ومن هنا تتبدى الأزمة الكبرى، فقد حالت تلك الثقافة السياسية الرجعية دون حدوث أي تغيير أو تطور في السلطة، وأُقصت من الشأن العام أجيالاً صاعدة بأكملها.. وفي المشهد الحالي نجد تلك الدول وكأنها قد أُجبرت على تفكيك النموذج الاقتصادي الاجتماعي القائم على الوصاية لكي تشرع في تطبيق إصلاح اقتصادي حقيقي ذا توجه ليبرالي، لكن هذا ربما بدأ متأخر نوعاً، وأحسبه لم يأتي عن قناعة، لكنه جاء تحت ضغط ثوري عارم عصف بالمنطقة، وربما بشروط دولية مجحفة.

يبدو أن تلك الأنظمة أذعنت للواقع مضطرة، وهذا نتيجة للمتغيرات الاقتصادية والثقافية التي اجتاحت العالم بأسره.. لكنها شملت هذا التطبيق باستراتيجيات تضمن لها الهيمنة السياسية المطلقة، وذلك باتخاذ تدابير تحريرية ناقصة وغير ملائمة على شاكلة تعطيل بنود دستورية أو فرض قوانين تتناسب فقط مع حالات محدودة ومؤقتة. فتلك الأنظمة الشمولية تدرك تماماً أن تطبيق تدابير فعلية مثل فتح مجال التنافس، والشفافية وإطلاق الحريات، وتوفير مزيد من الاستقلالية للفاعلين الاقتصاديين عن توجيهات القيادة السياسية، والقضاء على أنماط السلوك المتسمة بالاحتكار واستغلال الريع والتربح غير القانوني ستكون حتماً مصدر تحد لسلطتها المطلقة، وربما تصير مستقبلاً عامل أساسي يؤدي لتقويض دعائم الديكتاتورية التي هي أحد مكوناتها الأساسية..!.

وفي ظل ما تقدم، يظل السؤال عن مسألة الممارسات الهمجية والعشوائية التي اقترنت مؤخراً بالعرب وعلقت بحضارتهم لدرجة أن النموذج الأسوأ أصبح هو النمط الشائع والمتعارف عليه لدى الثقافات الأخرى.. هل نلقي اللوم على الشعوب والجماعات..؟ أم أن العلة تكمن في الأنظمة الشمولية الحاكمة بالقمع والتهميش..؟ أم أنه الغرب المستعمر الذي لا شاغل له إلا حياكة مؤامرات ضد ثقافات مترهلة لا يظهر من ملامحها إلا الهمجية والسفه، بينما هي أبعد ما تكون عن دوائر منافسته..!؟ .

إعلان