إعلان

بذور القسوة

محمد الصفتي

بذور القسوة

02:01 م السبت 26 أبريل 2014

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - محمد الصفتي:

انطبع كفّ الصغير مُترب الوجه رثّ الهيئة على زجاج السيّارة الفارهة وتقلّصت ملامحه الجادّة في محاولة لاستعطاف الرجل بادي الثراء والأناقة الجالس خلف المقود والّذي بدوره حدج الصغير بنظرة باردة مستنكرة لما علق بزجاج السيّارة من آثار الكفّ المتّسخ. في مقعد خلفيّ اتّسعت عينا ''أحمد'' بدهشةٍ بادية وبادر أباه بالسؤال: بابا، هو الولد ده عايز ايه؟.

بكلماتٍ مقتضبة حاسمة أجاب الأب: مالكش دعوة بيه يا حبيبي، ده ولد مش نضيف وما بيروحش السكول وعايز يسرقنا، إوعى تخلّي حدّ زيّه يقرّب منّك ولا تتكلم معاه.

انطلقت السيارة مع الإشارة الخضراء وأخذ ''أحمد'' يرمق في صمتٍ وخوف ذلك اللصّ الصغير يبتعد ويصغُر رويداً رويداً.

تمهّل ''أحمد'' قليلاً في طريق عودته من الحمّام إلى فصله عندما التقطت أذناه كلمات لم يفهمها من حجرة المعلّمين وهم يتجاذبون أطراف الحديث بأصواتٍ متحمّسة، كان أحدهم يصيح بعصبيّة: لازم يبيدوهم، همّه مستنّيين إيه؟ إحنا لسّه هنسجن ونأكّل ونشرّب؟ قصاد كلّ واحد يموت لازم يتعدم عشرة على طول. أجابه صوت نسائيّ: همّه لو كانوا من أول يوم ولّعوا فيهم كنّا ارتحنا، شهر ونصّ سايبينهم لحدّ ما اتوحّشوا علينا؟ دي ناس بتهرّج. صاح ثالث أجشّ الصوت: الله يرحمه صدّام كان فاهمهم نزل عليهم بالطيارات والكيماوي ما قامتلهمش قومة مش البهوات بتوعنا اللي بيطبطبوا.

امتقع وجه ''أحمد'' وأخذ قلبه يدقّ في عنف وأكمل طريقه في خطواتٍ عصبيّة خوفاً من أن يفطن أحد المتواجدين داخل الحجرة لوجوده فيصيبه طرفٌ ممّا سمع!

من نافذة الأوتوبيس المدرسي جاهد ''أحمد'' ليتمكّن من قراءة العبارات المكتوبة بخطّ عشوائي على جدران البيوت وأسوار المنشآت والتقطت عيناه كلمات متداخلة يراها كلّ يوم ويحاول أن يربط بينها بلا جدوى فتنطبع في عقله الباطن، خائن، قاتل، الثورة لن ترحم، الدمّ بالدمّ.. إلخ.  على الأريكة الخلفية للأوتوبيس تعالت أصوات (شلّة) من الصبية المتناغمين والّذين يحاول ''أحمد'' تجنّبهم دوماً يتناوشون ويتعاركون بالأيدي في مزاح سخيف وأحدهم يغنّي بصوتٍ لا يتناسب مع عمره متظرّفاً: هاتي بوسة يا بتّ، بينما آخر يلوّح في الهواء بمسطرة طويلة هاتفاً على طريقة (الألماني): اللي ليه شوق في حاجة ينزل لي يا حارة ما جابتش راجل!

تكوّر ''أحمد'' في وضع جنيني على فراشه وحاول كتم أذنه بالوسادة ليتجنّب سماع المشاجرة الدائرة خارج حجرته، كانت الأمّ تكيل الصفعات للخادمة الصغيرة وتصرخ في هستيريا: يعني إيه رشّيتي؟ انتي حيوانة ومش شايفة شغلك، أنا بيتي يبقى فيه نمل؟ وبنشيجٍ متّصل كانت الخادمة تحاول يائسةً الدفاع عن نفسها وصفعات الأم لا تقتنع!.

لم يحتمل ''أحمد'' مزيداً من الصمت وتلك البائسة الصغيرة التي لا تألو جهداً في إرضائه وتنفيذ طلباته ترزح تحت صفعات أمّه القاسية فقفز من فراشه وخرج من غرفته مغضباً.

من بين دموعه صاح ''أحمد'': كفاية يا ماما حرام عليكي. بدهشة بالغة توقّفت الأمّ عن الدفع والصفع ووجّهت عينين متسائلتين لابنها.

هدأت نفس الصغير قليلاً عندما حالت كلماته بين أمّه وبين الخادمة المكلومة وبهدوء وحكمة وجّه حديثه لأمّه: يا ماما هي هتعمل ايه للنمل؟ ما هو كتير، كلّميهم ييجوا يبيدوهم كلّهم بالكيماوي ويولّعوا فيهم ويريّحونا!

''ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك'' صدق الله العظيم.

للتواصل مع الكاتب https://www.facebook.com/MiMohamedEssafty

 

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك ...اضغط هنا

إعلان

إعلان

إعلان