"رحيل جون لو كاريه".. جاسوس سابق كشف أسرار الجاسوسية وتربع على عرش أدبها
لندن - (بي بي سي)
توفي الكاتب البريطاني جون لو كاريه، الذي يعد من أشهر كتاب أدب الجاسوسية في العالم، عن عمر يناهز الـ 89 عاما جراء إصابته بالتهاب رئوي.
وجون لو كاريه هو اسم مستعار للكاتب ديفيد كورنويل، الذي يتوجه الكثيرون بوصفه ملك رواية الجاسوسية.
وقد وصلت رواياته، التي تتسم بأنها مبنية على بحث دقيق ومستفيض ومكتوبة بأسلوب مميز، إلى جمهور واسع عبر تحويلها إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية ناجحة.
جرد لو كارية رواية الجاسوسية من الرومانسية والفتنة التي تتسم بها روايات جيمس بوند، واتجه بدلا من ذلك إلى فحص تلك الحياة المعتمة والقلقة التي يعيش فيها الجواسيس المحترفون.
وفي عوالم شخصيات لو كارية الموشكة على الأفول يصعب التمييز بين الخير والشر والخطأ والصواب، ولا يتوضح الخط الفاصل بينها أبدا.
ولد ديفيد جون مور كورنويل في 19 أكتوبر/تشرين الأول عام 1932 في منطقة بول بمقاطعة دورسيت. وكان والده، الذي يعرف باسم روني، محتالا محترفا في مجال التأمين، وقد وصفه أحد كتاب السيرة بأنه "رجل مخادع اسطوري، لم يتلق سوى تعليم بسيط، لكنه يتميز بجاذبية هائلة وخيارات ذوقية هابطة ولا يمتلك قيما اجتماعية".
لقد منحت هذه السمات لكونويل الشاب مدخلا مبكرا إلى فنون الخداع والتعامل المزدوج التي ستشكل لاحقا مادة كتاباته الأثيرة.
وقد هجرت والدته العائلة عندما كان بعمر خمس سنوات، لذا اخترع الصبي ديفيد حكاية خيالية عن أن والده كان يعمل في الخدمة السرية ليبرر غيابه المتكرر عن المنزل.
وبعد أن أكمل دراسته في مدرسة شيربورن، انتقل إلى جامعة بيرن لدراسة اللغات الأجنبية.
وقضى خدمته العسكرية في سلك الاستخبارات العسكرية، يُدير عملاء ثانويين في الجبهة الشرقية قبل أن ينتقل للدراسة في كلية لينكولن بأكسفورد، حيث حصل منها على درجة البكالوريوس.
وبعد أن عمل في التدريس نحو سنتين انتقل للعمل في وزارة الخارجية. وفي البداية أعطي منصب سكرتير ثانٍ في السفارة البريطانية في بون.
وخلال الزمن الذي قضاه هناك، عمل في قسم السجلات الاستخبارية، وبدأ بتدوين أفكار أولية لقصص جاسوسية خلال رحلاته بين العمل والبيت.
"متفوق في مهنته"
ونشرت روايته الأولى "دعوة للموتى" في عام 1961 عندما كان يعمل في الخدمة الاستخبارية.
وبدأ في استخدام أسم جون لو كاريه، كاسم فني يوقع به كتاباته الأدبية، لتجنب الحظر الذي تفرضه وزارة الخارجية على نشر العاملين فيها لكتب بأسمائهم الصريحة.
وقدمت الرواية شخصيات ستعاود الظهور في رواياته اللاحقة وبضمنها شخصية جورج سمايلي الشهيرة.
يقول لو كاريه عنها "في اللحظة التي توصلت فيها لشخصية سمايلي؛ بذلك الماضي وتلك الذاكرة التي تميزها وتلك الحياة الشخصية القلقة وذلك التفوق في مهنته، عرفت أنني امتلكت شيئا سأعيش وأعمل معه".
وانتهت مهنة لو كاريه كجاسوس عندما بات واحدا من العديد من العملاء السريين البريطانيين الذين كشف هوياتهم للروس، كيم فيلبي، الذي كان عميلا لمخابرات الكي جي بي.
وقد أوحت شخصية فيلبي الذي فر إلى موسكو لاحقا للو كاريه بشخصية "جيرالد" في روايته "سمكري، خياط، جندي، جاسوس"، (العنوان مأخوذ من ترنيمة يرددها الأطفال في إحدى ألعابهم).
وقد عززت روايته الثالثة "الجاسوس الآتي من الصقيع " شهرته وسمح له نجاحها بالتفرغ للكتابة الأدبية بشكل كامل.
"بشر خطاؤون"
وقد تحدّت هذه الرواية، التي نشرت في ذروة الحرب الباردة، الصورة التي يحملها العديد من القراء عن الجواسيس الغربيين بوصفهم فوق الحيل والممارسات القذرة التي يمارسها نظراؤهم في الشرق.
وتوجت بجائزة "الخنجر الذهبي لأدب الجريمة" وحُولت إلى فيلم سينمائي شهير، أدى فيه الممثل ريتشارد برتون دور الجاسوس المحبط والذي يشعر بخيبة أمل، أليك ليماس.
وعلى النقيض من الأجواء الرومانسية والغرائبية التي تتسم بها روايات جيمس بوند، صور لو كاريه جواسيسه بوصفهم كائنات بشرية عرضة للأخطاء وعلى إدراك تام لمواطن ضعفهم ونقاط ضعف الأجهزة التي يعملون في خدمتها.
ويعتقد لو كاريه أن رواية "حرب المرايا" التي نشرت في عام 1965 قدمت أفضل وصف واقعي لعالم الاستخبارات الذي عمل فيه، وقد اُستشهد بها بوصفها تكشف الأسباب الحقيقة لعدم نجاحه فيه.
وتجري أحداث الرواية اللاحقة "مدينة صغيرة في ألمانيا" في بون، حيث عمل لو كاريه، وقد حذرت هذه الرواية من المخاطر التي يمثلها إحياء سياسات اليمين المتطرف في ألمانيا.
في عام 1971، نشر رواية سيرة ذاتية تحت عنوان "عاشق ساذج وعاطفي"، وقد اعتمدت على أحداث انفصاله عن زوجته الأولى أليسون شارب.
وتظهر شخصيته الشهيرة جورج سمايلي في ثلاثيته الروائية: "سمكري، خياط، جندي، جاسوس" و"التلميذ المحترم" و "أهل سمايلي".
مرآة كاشفة
وتطرح أعمال لو كاريه أسئلة جادة عن المدى التي ستذهب إليه الأنظمة، حتى الديمقراطية منها، في عملية حفظ أسرارها، وهو شيء خبره لو كاريه جيدا
ويرى لو كاريه أن رواية الجاسوسية تؤدي وظيفة ديمقراطية ضرورية في عالم تكون فيه سرية الأجهزة الرسمية شمولية. وهي أن تحمل المرآة، مهما كانت الصورة مشوشة، لهذا العالم السري وتظهر الوحش الذي يمكن أن يستحيل إليه.
والمفارقة هنا أن لو كاريه كان سعيدا بالحفاظ على سرية حياته الشخصية، وظل يرفض لسنوات عديدة، حتى الإقرار بأنه كان جاسوسا في فترة من حياته.
ويحرص بشدة على خصوصيته، فيسافر منفردا ومتخفيا عندما يقوم بالبحث عن مادة لروايته. وظل لسنوات يرفض دعوات إجراء مقابلات معه، مشددا على أن ما يكتبه "هو نوع من الأحلام (الخيالية) وليس واقعا"، وأنه، ليس خبيرا في الجاسوسية، كما توحي بذلك الصحافة.
ومع بدء انهيار الاتحاد السوفياتي حوّل لو كاريه اهتمامته إلى النزاع الفلسطيني، فكتب روايته "قارعة الطبل الصغيرة" في عام 1983.
موقف ضد غزو العراق
وبعد ثلاث سنوات من ذلك، تمكن التخلص من الذكريات التي ظلت تطارده عن حياة والده، وصبها في رواية "جاسوس مثالي" التي عدها الكثير من النقاد من أبرع أعماله.
فحياة الجاسوس، ماغنوس بيم، تهيمن عليها ذكريات والده ريك، المحتال والشقي، وهي شخصية اعتمد بناؤها كثيرا على شخصية والده روني كورنويل.
في عام 1987، سُمح للو كاريه بالدخول إلى روسيا وقضاء أسبوعين هناك ضيفا على إتحاد الكتاب السوفيت، بعد أن ظلت السلطات السوفياتية تمنعه من الدخول لسنوات.
وانتشرت شائعة بأن رايسا زوجة الزعيم الروسي ميخائيل غورباتشيف، كانت من المعجبين بكتب لو كاريه، وأنها ساعدت في الحصول على الموافقة اللازمة لسفره من الكرملين.
وتواصل إنتاجه الروائي الغزير بظهور رواية جديدة في عام 1989 تحت عنوان "البيت الروسي"، وقد أشرت نهاية حقبة الحرب الباردة، كما ظهرت شخصية سمايلي من جديد في روايته " الحاج السري" عام 1981.
ونشر في عام 1996 روايته "خياط بنما" التي استلهمت قصة غراهام غرين الشهيرة "رجلنا في هافانا"، كما نشر رواية "البستاني الدائم" في عام 2000 وقد حول اهتمامه فيها نحو الفساد أفريقيا.
وفي عام 2003، انضم لو كاريه إلى مجموعة من الكتاب الذين انتقدوا بشدة الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق، وكتب مقالة تحت عنوان "لقد جُنت الولايات المتحدة الأمريكية".
قال فيها إن "كيفية نجاح بوش وطغمته في تحويل الغضب الأمريكي ضد بن لادن نحو صدام حسين، تعد واحدة من أكبر حيل الشعوذة (حيل الخداع السحري) في العلاقات العامة في التاريخ".
من هو "الجاسوس الكبير الذي أخرجته المخابرات الأمريكية على وجه السرعة من روسيا"؟
قصة جاسوس أمريكي سرب أسرار أول قنبلة نووية إلى السوفيت وأفلت من العقاب
وربما أسهمت تصريحاته في اتهامه بالتحيز ضد الأمريكيين في كتابه عام 2004 "أصدقاء مطلقون" الذي ييناول فيه حياة اثنين من الراديكاليين في أمريكا في الستينيات، يتصالحان مع أنفسهما والواقع بتقدمهما في السن.
ونشر في عام 2006 روايته العشرين "أغنية المهمة"، التي تبحث في علاقة معقدة بين قطاع الأعمال والشركات والسياسة في الكونغو.
وعُرف لو كاريه بتواضعه الشديد بشأن منجزاته، إذ ظل يرفض تكريمه، مصرا على أنه لن يصبح السير ديفيد كورنويل.
وقد قال مرة إن "الكاتب الجيد هو خبير بنفسه وليس بأي شيء آخر... وفي هذا الصدد، عليه، إذا كان حكيما، أن يمسك لسانه".
فيديو قد يعجبك: