لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الأعداد الحقيقية لضحايا انفجار مفاعل تشيرنوبل النووي

04:35 م الثلاثاء 30 يوليو 2019

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

بي بي سي:
في مصنع شهير لمعالجة الصوف في مدينة تشيرنيهيف شمالي أوكرانيا، ظهرت على العاملات اللائي يفرزن الصوف يدويا قبل غسله ومعالجته في موسم الربيع عام 1986، أعراض مختلفة، مثل نزيف الأنف أو الدوار والغثيان.

ورصد المحققون مستويات عالية من الإشعاع في المصنع تصل إلى 180 ملي سيفرت/ساعة، أي أنهم تعرضوا في أقل من دقيقة لجرعة إشعاعية تتجاوز الجرعة الإشعاعية السنوية التي تعد آمنة في الكثير من دول العالم اليوم.

إذ يبعد هذا المصنع 50 ميلا فقط عن محطة تشيرنوبل للطاقة النووية. وفي 26 أبريل عام 1986، دوى انفجار قوي في المفاعل الرابع أدى إلى انصهار قلب المفاعل وأطلق سحبا من المواد المشعة فوق المنطقة المحيطة بالمحطة بينما اشتعلت نيران كثيفة عجز عمال الإطفاء عن إخمادها.

لكن تشيرنيهيف لم تصنف ضمن منطقة الحظر الملوثة بالإشعاع التي سارعت السلطات بإقامتها في محيط المحطة، وكانت مستويات الإشعاع في المدينة منخفضة نسبيا مقارنة بمستويات الإشعاع في مصنع الصوف.

لا تزال أعداد الوفيات والمصابين جراء التعرض للإشعاع الذي انبعث من مفاعل تشيرنوبل في أعقاب الكارثة أحد الموضوعات الشائكة
وتقول كيت براون، مؤرخة علمية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إن 298 امرأة في هذا المصنع تعرضن لجرعات إشعاعية عالية تعادل الجرعات التي تعرض لها العمال الذين شاركوا في عمليات إخماد الحرائق وإزالة آثار الانفجار في أعقاب الحادثة.

وتجري براون بحثا عن تداعيات كارثة تشيرنوبل، وقادها الإصرار للكشف عن الكلفة الحقيقة للكارثة إلى زيارة أجزاء عديدة من أوكرانيا وروسيا البيضاء وروسيا، حيث حاورت الناجين من الكارثة وبحثت في السجلات الرسمية وتقارير المستشفيات القديمة.

وتشير التقارير الرسمية إلى أن 31 شخصا فقط لقوا حتفهم في أعقاب انفجار تشيرنوبل، بينما تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن عدد ضحايا الكارثة 50 شخصا، لكنها توقعت في تقرير عام 2005 أن تصل أعداد ضحايا الحادث إلى 4,000 شخص جراء التعرض للإشعاع المنبعث من حادثة تشيرنوبل.

وتقول براون، لم يتبق من النساء اللائي كن يعملن في المصنع آنذاك في مدينة تشرنيهيف سوى 10 سيدات، أما سائر العاملات بالمصنع اللائي تعرضن للإشعاع، فبعضهن وافتهن المنية والبعض الآخر تقاعدن بسبب المرض.

وعندما تحدثت براون مع العاملات العشرة أخبروها بأنهن كن يفرزن الصوف على الطاولات، وفي شهر مايو 1986، استلم المصنع بالات صوف بلغت مستويات الإشعاع فيها 30 سيفرت/ساعة.


وترى براون أن أصواف الخراف التي ذُبحت في المنطقة المحيطة بمحطة تشيرنوبل أثناء إجلاء السكان منها، أو في المزارع التي كانت تغطيها سحب المواد المشعة شمالي أوكرانيا، قد وصلت بطريقة ما إلى المصنع.

وكشفت قصص العاملات العشرة عن الصورة الكئيبة لما حدث لأناس عاديين في المنطقة تعرضوا لجرعات إشعاعية عالية دون أن يشاركوا بأنفسهم في عمليات إزالة مخلفات الانفجار في مفاعل تشيرنوبل.

وتقول براون إنهن أشرن إلى مناطق مختلفة من أجسادهن نالت منها الشيخوخة، وأصبن بمشاكل صحية عديدة. وتعرف كل منهن كل شيء عن أنواع النظائر المشعة التي دخلت إلى أجسامهن.

وقد شارك مئات الآلاف من قوات الإطفاء والمهندسين وقوات الجيش والشرطة وعمال المناجم وعمال النظافة والفرق الطبية في عمليات مكافحة الحرائق والسيطرة على انصهار المفاعل ومنع انتشار المواد المشعة في البيئة في أعقاب الكارثة.

وقد مُنح هؤلاء الذين تعاملوا مع ذلك الانفجار وتبعاته في الوثائق الرسمية السوفيتية مكانة خاصة تخول لهم الحصول على مزايا مادية وعينية، مثل رعاية صحية إضافية. وتشير السجلات الرسمية إلى أن عددهم بلغ 600.000 شخص.

وذكر تقرير نشره المركز القومي لأبحاث الطب الإشعاعي في أوكرانيا أن 651,453 عاملا تعرضوا لجرعة إشعاعية عالية أثناء المشاركة في عمليات إزالة مخلفات انفجار المفاعل. ويشير أحد السجلات في روسيا البيضاء إلى أن عدد العمال الذين شاركوا في عمليات إزالة مخلفات الانفجار بلغ 99,693 شخصا.

وفي أوكرانيا ارتفعت نسبة الوفيات والإعاقات بين هؤلاء العمال بعد مرور عقود على الحادثة، إذ يعاني 63 في المئة منهم من أمراض القلب والأوعية الدموية وأمراض الجهاز العصبي. وفي روسيا البيضاء، أصيب 40,049 من هؤلاء العمال بالسرطان.

لكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية ذكرت أن الفحوصات الطبية على العمال الذين شاركوا في عمليات إزالة مخلفات الانفجار لم تثبت وجود علاقة بين التعرض للإشعاع وبين الإصابة بالسرطان وغيره من الأمراض.

وكان سكان بلدة بريبيات القريبة من موقع المحطة والمنطقة المجاورة لها هم الأكثر تضررا بالإشعاع المنبعث من انفجار المحطة. إذ لم تبدأ عمليات الإجلاء إلا بعد يوم ونصف من الحادثة. وتعرض بعض سكان المناطق الأقرب للمحطة النووية إلى جرعات إشعاعية داخليا، بعد استنشاق المادة المشعة وتناول أطعمة ملوثة بالإشعاع. إذ بلغت الجرعة التي امتصتها غددهم الدرقية 3.9 غراي، أي أكثر من جرعة الأشعة السينية للصدر بنحو 37,000 مرة.

ويقول الأطباء إن معدل الوفيات بين السكان الذين أجلتهم السلطات من منازلهم بلغ 18 حالة وفاة لكل 1000 شخص، في الفترة ما بين 2008 و2012.

وعثرت براون على أدلة في سجلات المستشفيات وقت الحادثة تكشف عن مدى انتشار المشاكل الصحية بين السكان. وتقول براون إن المستشفيات في المنطقة وحتى في موسكو، اكتظت بالمرضى الذين يشكون من أعراض خطيرة. ومع بداية موسم الصيف بعد الحادثة، بلغ عدد المرضى في المستشفيات 40,000 شخص على الأقل، وأكثرهم من النساء والأطفال.

ويرى الكثير من المحللين أن الضغوط السياسية دفعت الاتحاد السوفيتي إلى كتمان الحجم الحقيقي للكارثة حفظا لماء الوجه على الصعيد الدولي. ولم تتكشف الأعداد الحقيقية لضحايا الكارثة إلا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانتشار المشاكل الصحية بين سكان المناطق التي تعرضت للإشعاع.

وتشير تقديرات المركز الوطني لأبحاث الطب الإشعاعي في العاصمة الأوكرانية كييف، إلى أن عدد مواطني الاتحاد السوفيتي الذين تأثروا بالإشعاع في أعقاب كارثة تشيرنوبل بلغ نحو خمسة ملايين شخص، منهم ثلاثة ملايين في أوكرانيا، ونحو 800 ألف في روسيا البيضاء.

وتصرف الحكومة الأوكرانية إعانات لنحو 36,525 أرملة قضى أزواجهن نحبهم بسبب حادثة تشيرنوبل. ويقول فيكتور سوشكو، نائب مدير المركز، إن 1.8 مليون شخص في أوكرانيا صنفتهم الحكومة من ضحايا الكارثة، ووصل عدد الأشخاص إلى أصيبوا بإعاقات جسدية دائمة جراء الكارثة إلى 107,115 شخص في عام 2018.

وقع الانفجار الذي أدى إلى انصهار قلب المفاعل الرابع بمحطة تشيرنوبل أثناء اختبار للأمان، وأدى إلى انتشار سحب من المواد المشعة
وارتفعت معدلات الوفيات في المناطق الملوثة بالإشعاع مقارنة بالمناطق المحيطة بها في أوكرانيا. وطال الإشعاع مساحات شاسعة من الأراضي، إذ صنفت منطقة مساحتها إجمالا 150 ألف كيلومتر مربع من روسيا البيضاء وروسيا وأوكرانيا كمنطقة ملوثة بالإشعاع، ولا تزال منطقة الحظر التي تبلغ مساحتها 4,000 كيلومتر مربع، مهجورة بالكامل.

وانتشر الغبار المتساقط من السحب المشعة بفعل الرياح في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، وفي غضون يومين، رُصدت مستويات عالية من الإشعاع في الهواء في السويد، وفرضت بريطانيا حظرا على بيع منتجات الأغنام لسنوات بعد أن تسبب الانفجار في تلوث النباتات والمراعي بالإشعاع.

وأشارت أدلة إلى أن نسبة الإصابة بالأورام، سواء الحميدة أو الخبيثة، قد زادت في المناطق التي انتشر فيها الغبار المشع في غرب أوروبا إثر وقوع الانفجار، مقارنة بالمناطق التي لم يطلها التلوث الإشعاعي.

وعثرت براون على سجلات في موسكو تدل على أن النباتات ومنتجات الحيوانات الملوثة بالإشعاع وزعت في أنحاء البلاد. وتقول إنهم كانوا يصنفون منتجات المواشي بحسب تركيزات المواد المشعة فيها. وكانوا يضعون اللحوم ذات التركيزات المرتفعة من المواد المشعة في المبردات إلى حين انخفاض نسب الإشعاع، أما اللحوم ذات التركيزات المتوسطة أو المنخفضة من المواد المشعة فكانت تُخلط مع اللحوم النظيفة وتدخل في صناعة النقانق، وكانت توزع على جميع أنحاء البلاد على أنها لحوم خالية من الإشعاع.

واكتشفت براون قصصا مشابهة عن الكرز الأزرق الذي كان يحتوي على تركيزات مرتفعة من المواد المشعة وكان يخلط مع الكرز الخالي منها، ويصنف ضمن الحدود المسموح بها لتركيز المواد المشعة.

إلا أنه ليس من السهل الربط بين التعرض للإشعاع وبين الآثار الصحية طويلة الأمد، خاصة أن السرطان على سبيل المثال يتطور على مدى عقود.

وكشفت دراسة حديثة عن ارتفاع معدلات تلف الجينات أو عدم الاستقرار الجيني- أي زيادة التحور الجيني الذي يسبب السرطان- بين الأطفال الذين تعرضوا للإشعاع أثناء الكارثة أو ولدوا لآباء تعرضوا لها.

وتقول أليكساندرا فيوتشيك، المتخصصة في علم الجينات بمركز الأبحاث الطبية والصحة المهنية في العاصمة الكرواتية زغرب، إن الزمن عادة يضمد الجراح، لكن في حالة حادثة تشيرنوبل، كلما مر الوقت تتطور الأورام السرطانية جراء التعرض لجرعات إشعاعية.

وتضيف أن ثمة آثارا أخرى لإشعاعات تشيرنوبل، منها ارتفاع معدلات الانتحار بين العمال الذين ساهموا في إزالة مخلفات انفجار تشيرنوبل، وارتفاع معدلات معاقرة الخمر والأمراض النفسية بين سكان المناطق التي تأثرت بإشعاعات تشيرنوبل.

ولا شك أن تحديد أعداد ضحايا كارثة تشيرنوبل يكاد يكون مستحيلا. ولا سيما أن ثمة قصصا تتعارض مع الصورة القاتمة التي رسمها الباحثون لتداعيات الكارثة. ففي أعقاب الانفجار، تطوع ثلاثة مهندسين لتصريف ملايين الغالونات من المياه أسفل المفاعل المحترق، وخاطروا بالنزول وسط المياه الملوثة بتركيزات عالية من المواد المشعة دون ارتداء ما يكفي من المعدات الواقية من الاشعاع للوصول إلى الصمامات.

والعجيب أن اثنين من هؤلاء المهندسين لا يزالان على قيد الحياة والثالث وافته المنية عام 2005.

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: