لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

رحلة إلى المكان الأكثر عزلة على كوكب الأرض

08:45 م الأربعاء 24 أبريل 2019

خليج سترومنيس في جزيرة ساوث جورجيا

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

لندن (بي بي سي)

قال قائد الرحلات الاستكشافية، نيت سمول، ونحن نخطو بحذر إلى خليج سترومنيس في جزيرة ساوث جورجيا: "ابقوا بعيدا بمسافة 200 متر عن مركز صيد الحيتان، فهو ممتلئ بمادة الأسبست (الحرير الصخري)، كما أن الأسطح يمكنها أن تنفجر".

اخترت طريقا حذرا عبر الشاطئ المغطى بالحصى الرمادي، وأنا أنظر بحرص إلى فقمة يكسوها الفراء تزحف على الأرض وفقمة عملاقة تصدر أصواتا غريبة.

وشاهدت أبنية حديدية متداعية يعلوها الصدأ ومتهالكة على الطرف الآخر من الخليج أمام جبل تحيطه أرض موحلة، وقد اختفت أجزاء كبيرة من أسقف وجدران هذه الأبنية، أما ما تبقى منها فكان يهتز بلا توقف بفعل الرياح الشديدة، وكأنه تعرض لكارثة طبيعية.

وتوقفت أمام لافتة مكتوب عليها "احذر من الأسبست"، وسرت وسط ضباب كثيف، متجمد الأطراف من درجات الحرارة التي وصلت إلى تحت الصفر.

قبل قرن من الزمان، كان خليج سترومنيس منطقة تدر أرباحا طائلة، وقد حول جزيرة ساوث جورجيا إلى عاصمة لصيد الحيتان في جنوب المحيط الأطلنطي.

وقد أخبرني سيب كاولثارد، المرشد السياحي والمؤرخ التابع لمؤسسة "بولار لاتيتيودز"، في وقت سابق خلال رحلتي بكيفية وصول إرنست شاكلتون إلى سترومنيس عام 1916 بعد هروبه البطولي لمسافة 1300 كيلومتر من جزيرة إليفانت، إحدى جزر ساوث شتلاند التي تقع إلى الشمال مباشرة من شبه الجزيرة القطبية الجنوبية، بعد أن علقت سفينته وتحطمت بسبب اصطدامها بجبل جليدي.

وتعد جزيرة ساوث جورجيا، بأرضها الوعرة وأنهارها الجليدية وجبالها ومضايقها، واحدة من أكثر الأماكن النائية في العالم، إذ تقع هذه الجزيرة البريطانية في جنوب المحيط الأطلنطي على بُعد 1400 كيلومتر عن أقرب مكان مأهول بالسكان، وهو جزر فوكلاند، ولا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق البحر.

ويزور هذه الجزيرة نحو 18 ألف شخص سنويا عن طريق رحلات بحرية. وتبلغ مساحة الجزيرة 3,755 كيلومترا مربعا، ويغطي الجليد حاليا نصف مساحتها بشكل دائم، رغم أن مساحة الجليد على سطحها تراجعت كثيرا نتيجة التغيرات المناخية.

ورغم العزلة والظروف البيئية القاسية، كانت ساوث جورجيا يوما ما جزءا أساسيا من الاقتصاد العالمي. وقد اكتشفت الجزيرة عام 1675 وضمها جيمز كوك عام 1775 إلى بريطانيا. وقد أثارت أحاديث كوك عن وفرة الفقمة اهتمام الصيادين من المملكة المتحدة والولايات المتحدة.

وفي اليوم التالي لزيارتي لخليج سترومنيس، أبحرت سفينتي جنوبا بسرعة رياح بلغت 75 عقدة إلى خليج "كينغ إدوارد كوف"، الذي كان يوما موقعاً لأول محطة لصيد الحيتان في ساوث جورجيا، التي كانت تحمل اسم "جريتفيكين". أما الآن فتتناثر فيه حطام السفن والجبال الجليدية الصغيرة، وتحده من الخلف الجبال المنيعة.

وبعد ذلك، اصطحبني فينلاي رافيل، أحد القيمين على متحف بهذا الموقع، في جولة حول محطة صيد الحيتان المتهالكة. وتجولنا عبر منطقة صناعية من الأبراج القصيرة والمستودعات ومولدات الكهرباء ومساحات من الأنابيب المتشابكة والمواقد الضخمة، وكل هذه الأشياء يعلوها طبقات من الصدأ. وعلى امتداد الشاطيء، يمكنك رؤية سفن ومراكب من حقب متفاوتة دفعها التيار بزوايا غير منتظمة. وقد اكتست الأرض الطينية بأجزاء من عظام الحيتان.

وفي عام 1902، توقف المستكشف النرويجي كارل أنتون لارسين في ساوث جورجيا ووجد نفسه بالصدفة في ميناء طبيعي جميل، واكتشف عدة نقاط لصيد الفقمة كانت تستخدم لاستخراج الزيت من شحم الحيتان وأطلق على المنطقة اسم "جريتفيكين".

وقال لنا رافيل: "لقد رست مراكبهم في مكان لا يبعد كثيرا عن المكان الذي ترسو فيه السفن اليوم. الفرق الوحيد هو أنه عندما كانوا ينظرون إلى الماء كانوا يرون مئات الحيتان في هذا الخليج".

وقد رأى لارسين أن الفرصة سانحة للقيام بعمل تجاري مربح بسبب تراجع صناعة صيد الحيتان في النصف الشمالي من الكرة الأرضية نتيجة قتل الحيتان، فعاد إلى جريتفيكين في نوفمبر 1904 وأنشأ محطة لصيد الحيتان، والتي ما لبثت أن ازدهرت بسرعة كبيرة. وبحلول 1912 أصبح هناك ست محطات أخرى لصيد الحيتان في جزيرة ساوث جورجيا، بما في ذلك محطة سترومنيس.

وبعد ذلك، وصلنا إلى مصيدة حيتان قديمة متجنبين بالكاد اثنين من فقمة الفراء تمكنا من الاختفاء بطريقة جيدة بين المعدات الصدئة. ويمكن لسفينة بيتريل لصيد الحيتان أن تصطاد نحو 14 حوتا في الرحلة الواحدة، وهي سفينة يعمل محركها بالبخار ومزودة ببندقية رماح لصيد الحيتان.

وعندما تعود السفينة إلى جريتفيكين يجري فصل الدهون من الحيتان بعد رفعها إلى رصيف منحدر.

يقول رافيل عن ذلك: "إنه زلق جداً بسبب كل هذا الدم والزيت، لذلك يرتدي الرجال أحذية طويلة بمسامير في أسفلها منعاً للتزحلق. ولديهم سكين لفصل الدهون عبارة عن عصا طويلة بشفرة حادة محنية، يستخدمونها لفصل الدهون عن جسد الحوت". وتستغرق هذه العملية 20 دقيقة لكل حوت.

ويعد زيت الحوت هو صاحب القيمة الأكبر بين كل أجزاءه، ويقول رافيل عن ذلك: "أفضل أنواع الزيت يذهب إلى المنتجات الغذائية مثل الزبد والمثلجات، أما زيت الدرجة الثانية فيستخدم لصناعة الصابون ومواد التجميل، في حين تستخدم الأنواع الرديئة منه في العمليات الصناعية".

كما يستخرج أيضاً من زيت الحوت مادة الغليسرول التي تستخدم في تصنيع المتفجرات، إضافة لمواد تشحيم عالية الجودة للبنادق والساعات الدقيقة والعديد من المعدات العسكرية. ونتيجة لهذا، ارتفع الطلب على زيت الحوت بشكل كبير خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.

ويعمل في جريتفيكين 450 رجلا لمدة 12 ساعة في اليوم على مدار الأسبوع، في درجات حرارة يمكن أن تنخفض إلى ما تحت 10 درجات مئوية.

وكان لارسين حريصا على رعاية احتياجات العمال، فشيد كنيسة جديدة على الطريقة القوطية، وهو فن معماري انتشر في أوروبا في ذلك الوقت. لكن رافيل يقول إن راعي الكنيسة "كان أقل الموظفين شأناً في المحطة".

كما كان هناك دور للسينما وملعب لكرة القدم، جرفته الرياح بعد ذلك، كما كانت رياضة القفز على الثلوج تحظى بشعبية كبيرة.

وقد تركني رافيل في منزل المدير السابق للمحطة، وهو عبارة عن مبنى أبيض نظيف تم تحويله إلى متحف لذلك الموقع. وتحتوي المعروضات في الداخل على بعض الأرقام الصارخة، مثل 175,250، والذي يشير إلى عدد الحيتان التي جرى معالجتها في ساوث جورجيا بين عامي 1904 و1965، عندما انهارت تلك الصناعة بسبب الصيد الجائر والتطورات التي شهدتها صناعة البتروكيماويات.

وإذا نظرنا إلى المنطقة القطبية الجنوبية ككل وأضفنا إليها السفن الكثيرة التي كانت تُقتل على متنها الحيتان، فقد قتل نحو 1.5 مليون حوت خلال الفترة بين عامي 1904 و1978، عندما توقف صيد هذه الحيوانات في نهاية المطاف.

وتقول الوكالة الدولية لصيد الحيتان إن أعداد الحيتان الزرقاء في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية انخفض من 200 ألف إلى بضعة آلاف، كما تراجعت أعداد الحيتان الزعنفية بشكل مشابه.

ويوجد نحو 60 ألف من الحيتان المحدبة في النصف الجنوبي من الكرة الرضية، لكن هذا أيضاً أقل بكثير مما كان عليه الوضع قبل حقبة الصيد الجائر للحيتان.

وفي سبتمبر 2018، رفضت البلدان المؤيدة لصيد الحيتان الخطط التي وضعتها الوكالة الدولية لصيد الحيتان لحمايتها في جنوب المحيط الأطلنطي. وفي وقت لاحق أعلنت اليابان أنها سوف تستأنف صيد الحيتان لأغراض تجارية للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود، مما أثار سخطاً عالميا.

لكن أعداد الفقمة ارتفعت مرة أخرى، إذ تضم الجزيرة الآن نحو 98 في المئة من فقمات الفراء القطبي على مستوى العالم، بالإضافة إلى نحو 50 في المئة من الفقمات الفيلية في العالم. كما يوجد في ساوث جورجيا 30 مليون زوج من الطيور البحرية.

وقد قضيت أحد الأيام في خليج سانت أندروز بصحبة 400 ألف من طيور البطريق الملكي، وهو واحد من أربعة أنواع من البطاريق التي توجد في الجزيرة. كما قضيت ظهيرة أحد الأيام في جزيرة بريون التي تعد أحد مواقع التزاوج المهمة لطيور القطرس.

ورغم ثراء الحياة البرية، كان إرث الجزيرة المتمثل في صيد الحيتان هو ما علق بذهني عندما أبحرت خارجاً من جريتفيكين. وقال لي الدليل السياحي كاولثارد: "عندما تتجول في هذه المحطات فإن كل ما تراه هو هذه الغلايات الصدئة والأفران ومناشير العظام. لقد كانت صناعة تتسم بالوحشية، لكن الطبيعة أخذت ثأرها منها، لكي تذكرنا بأن بأن الطبيعة لا تحتاج إلى البشر، بل البشر هم من يحتاجون الطبيعة".

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: