''سبات شتوي'' نوري جيلان يقدم الاستلاب الإنساني تحت رتابة الحياة اليومية في مهرجان كان
كان – (بي بي سي):
في فيلم ''سبات شتوي''، يعزز المخرج نوري بيلجي جيلان نهجه السينمائي الواقعي الخاص الذي وضعه في مقدمة المشهد السينمائي العالمي كأبرز مخرج في السينما التركية، وبين أبرز المتنافسين هذا العام على سعفة مهرجان كان الذهبية (منحته مجلة سكرين 3.4 في سلم تقييم نقادها المكون من أربع درجات متنافسا مع المخرج البريطاني مايك لي).
إنه نهج قائم على اكتشاف جماليات اليومي والعادي وتصوير واقع الاستلاب الإنساني وتحليل العلاقات الإنسانية وظلال العلاقات الطبقية عليها.
ويستعير جيلان من المسرح ومن الأدب بعض الياته السردية، ليسندها بحساسية بصرية عالية تحدرت من دربته الطويلة في مجال التصوير الفوتوغرافي وإحساسه العالي بجماليات الطبيعة.
فواقعية جيلان تستمد جذورها من التقليد الأدبي الواقعي وتحديدا من أدب القرن التاسع عشر ونزعته الإنسانية المهيمنة، وإذا شئنا التخصيص أكثر نجد مصادر جيلان بوضوح في أدب القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الروسي الذي يكن له احتراما كبيرا، إذ يشير في إحدى مقابلاته ''قد يكون للأدب الروسي التأثير الأكبر في أفلامي'' مستندا في ذلك إلى التشابهات الكبيرة بين ما تمر به تركيا من تحولات، وما مرت به روسيا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ''بالتأكيد إذا لم أكن أرى في الأدب الروسي انعكاسات الناس الأتراك، لم أكن استخدمه. وهو أيضا صالح الإنسانية جمعاء''.
المعلم الأول
وفي المقدمة من هذا الأدب، القاص والكاتب المسرحي إنطوان بافلوفيتش تشيخوف، الذي نراه يمثل المعلم الأول لجيلان ولا يكاد يخلو فيلم من أفلامه من استعارة أو إشارة مباشرة أو غير مباشرة إليه، فضلا عن استلهامه الدائم لطريقته في بناء الشخصيات وفي تصوير حياة الناس العاديين في حياتهم اليومية بينما تمور في دواخلهم براكين من الغضب واليأس والاحباط تمثل مادته الدرامية المميزة، على سبيل المثال لا الحصر في فيلمه السابق '' حدث ذات مرة في أناضوليا'' ينثر في حوارات شخصياته نحو 15 عبارة من تشيخوف على الرغم من أن العمل قد يبدو في أحداثه وشخصياته تركي خالص وبعيد عنه.
يحلو لجيلان ان يصف تشيخوف بأنه : الإنسان الكبير'' أو ''سوبر هيمان'' ويضيف في إحدى لقاءاته إن ''الطريقة التي أنظر بها الى التفصيل متأثرة بتشيخوف. حيث تفاهة وعادية اليومي يمكن أن تصبح شيئا مهما''.
وفي ''سبات شتوي'' (وهي الترجمة التي اقترحها لعنوان الفيلم بدلا من العنوان الشائع في الصحافة العربية ''نوم الشتاء'') يقدم جيلان أوضح مثال على مرجعياته هذه، إذ يقدم معالجة تبدو على قدر كبير من الحرية لشخصيات اختارها من مسرح تشيخوف وأعاد زراعتها وأقلمتها في بيئة تركية محلية.
فجيلان يشير في العناوين في نهاية فيلمه إلى اعتماده على مسرحيات تشيخوف في سيناريو الفيلم، لكنه لا يلتزم بتحديد عمل لينقله كاملا الى الشاشة، يختار شخصيات معينة وطريقة المعالجة والنظرة إلى العالم.
ولحظة النجاح الأولى لجيلان تتمثل في اختيار المكان الطبيعي وإعادة زرع شخصياته التشيخوفية وسط جمالياته، واستثمار عناصر الطبيعة كمعادل موضوعي صوري يعكس من خلاله أو من خلال العلاقة معه حالة شخصياته الداخلية، ويتجلى هذا النهج لديه بدءا من اختيار العنوان ''سبات شتوي''.
ويقدم جيلان، المتحدر من التصوير الفوتوغرافي، براعته التصويرية هنا واستثماره لجماليات اللقطة العامة التي يبرع في اختيار زواياها وتوزيع حركة شخصياته ضمنها في لقطات طويلة على قدر عال من الجمال والاهتمام بميزانين اللقطة الطويلة التي تنساب حركة الشخصيات بسلاسة داخلها دون حاجة إلى قطع مونتاجي حاد.
وقد اختار هنا قرية جبلية من قرى الاناضول، تبدو بيوتها وكأنها منحوتة في الجبل، بمعمارها المعتمد على الخطوط المنحنية وأنصاف القباب وليس الجدران المستقيمة.
كما يبرع جيلان في استخدام سينما الطريق، في تصويره المميز لحركة السيارات وشخصياته في الطرق في لقطات طويلة معبرة، وإن كان هذا الاستخدام في هذا الفيلم بدا بنسبة أقل من أفلامه السابقة كما هي الحال مع ''حدث ذات مرة في أناضوليا'' و''القرود الثلاثة''.
''فندق عطيل''
يختار جيلان شخصيته الرئيسة ''آيدن'' (أداها ببراعة الممثل هايوك بيلجنر) وهو أحد ملاك الأراضي وممثل سابق معتزل، يدير فندقا كما يمتلك عددا من المنازل في قرية صغيرة مجاورة، وكما هي الحال عند تشيخوف تتعلق مصائر كل الشخصيات الأخرى به. وتبدو شخصيته خليط من شخصيتي بلاتونوف في مسرحية ''بلاتونوف'' والبروفسور المتقاعد الكساندر سيربياكوف في ''شيطان الغابة'' والذي أعاد تقديم صورة مشابهة له في ''الخال فانيا''، إلى جانب زوجته الشابة ''نهال'' التي تتذكر بزوجة البروفسور ''هيلينا'' في مسرحية تشيخوف (الممثلة ميليسا سوزين) واخته التي تعاني من آثار تجربة طلاق ''نجلاء'' الممثلة ديميت أكباج.
وكعادة تشيخوف يبدأ جيلان برصد ملامح من الحياة اليومية لشخصياته ويقدم ''فرشة'' على مساحة زمنية طويلة لحركة شخصيته الرئيسية في الطبيعة، حيث يبدأ معه وهو في الجبل يسلي نفسه في التقاط الفطر، ثم عودته إلى فندقه الذي أعطاه اسما مسرحيا من شكسبير ''فندق عطيل'' وعلاقته بزبائنه من السياح الأجانب في الفندق.
وهنا ينثر جيلان بهدوء التلميحات إلى قضاياه وثيماته الأساسية، على سبيل المثال ذاك الحوار مع السائح الأجنبي عن الخيول في المنطقة، ونفيه لوجودها بكثافة فيها (الثيمة من تشيخوف أيضا) وإن الصور التي وضعها في موقعه هي لمجرد الدعاية، وواضح ما تمثله الخيول البرية من رمز للحرية يصبح لاحقا معادلا للحرية المفقودة لدى شخصياته، كما نراه لاحقا يقوم باصطياد واحدا من هذه الخيول وسجنه لديه.
ويقدم جيلان حوارات ومناقشات طويلة بين ايدن واخته يستعرض فيها آيدن مثله وثقافته واستعاراته الأدبية والفلسفية، لاسيما عند مناقشة العمود الذي يكتبه في صحيفة محلية. ويبدو آيدن هنا منطقيا ومثاليا في كثير أفكاره ومحبا للخير والعمل الخيري.
ويمهد جيلان عبر هذه المناقشات النظرية لما يراه لاحقا من ازدواجية في سلوك شخصيته (ازدواجية الأخلاق البرجوازية) في الواقع إذ أنها مسؤولة بشكل اساسي عن واقع الاستغلال والفقر والظلم الذي تنتقده.
ففي أحد المشاهد يتحدث إلى جاره عن رسالة وصلته من أحد معلمي القرية يدعوه لتبني مشروع خيري، لكنه يصر على الاستعراض بأن يدعو زوجته المهتمة بالعمل الخيري ليقرا الرسالة متباهيا بحضورها وكأنه يطلب الاستشارة ولكنه في واقع الحال لا يفعل شيئا، وعلى العكس من حقيقتها ترفض نهال المشروع فتبدو للوهلة الاولى وكأنها رافضة لعمل الخير، لكنها في الحقيقة تبحث عن عمل خيري فاعل ونافع لا استعراضي.
يمضي كل شي برتابة وسكون لكنهما يتفجران مع قيام طفل في القرية برمي حجر على سيارة ايدن ومساعده وسائقه ''هدايت'' (الممثل آيبرك بيكجان) ليكسر زجاجتها الجانبية عند مرورهما بالقرية، فيلاحق السائق الطفل ويمسك به ليعيده إلى أهله في القرية مطالبا معاقبته، وهنا نرى شخصية ''اسماعيل'' (الممثل نجات آيسلير) الأب الذي يبدو عصابيا ومبالغا بانفعاله دون ان نعرف لماذا وبعد إن يعاقب طفله يتشاجر مع السائق.
يحرص جيلان على أن يقدم آيدن في صورة المترفع عن الصغائر، المتسامح، والذي لا يتدخل في التفاصيل تاركا إياها لمساعده، بيد أنه في حقيقة الحال نموذج برجوازي استغلالي يحمي صورته عبر هذا الترفع لكنه يواصل استغلال الآخرين تاركا قساوة التنفيذ لمساعديه.
ازدواجية
وتتكشف الصورة مع إصرار عم الطفل امام المسجد على ان يقدم الطفل اعتذاره وان يقبل يد آيدن، ويجلبه في رحلة طويلة في جو شتائي قارس إلى منزله، يرفض آيدن فكرة تقبيل يده لكنه يقدمها في الوقت للطفل ليقبلها لا مباليا وكان الموضوع استجابة لطلب العم لكن الطفل يسقط مغشيا عليه.
ونعرف أن الطفل محمل بالغضب لأنه رأى الشرطة تهين والده المتأخر في دفع الايجار لآيدن، كما أخذت بعض ممتلكاته ومن بينها تلفزيون العائلة، عندما لم تستطع العائلة المكونة من الأخوين وأمهما وزوجة اسماعيل وطفله، لا سيما أن إسماعيل قد أدمن الشراب هربا بؤس أوضاعه.
وهذا الموقف يفجر الأزمة الكامنة بين نهال (الزوجة الشابة والمثالية والضجرة من حياتها) وبين آيدن المرائي في سلوكه بين المثل التي يتحدث عنها وسلوكه الواقعي الاستغلالي.
وتلجأ نهال إلى العمل في مشروع خيري لجمع المال لمساعدة عائلة إسماعيل دون أن تشرك زوجها بذلك، لكنه يصر على التدخل في المشروع والتعامل معها بوصاية، وتتصاعد الأزمة بينهما لكنه يحاول أن يغير باي شكل من الاشكال صورة نهال عنه، ويتبرع بمبلغ كبير من المال إلى مشروعها الخيري الذي لا يعرف بدقة تفاصيله.
ويقرر آيدن السفر الى المدينة رغم سقوط الثلوج وانقطاع الطرق ويأخذه هدايت في رحلة الى القرية، لكنه يعدل عن السفر بعد تأخر القطار في المحطة ويعود سرا إلى منزل صديقه ليشربا برفقة معلم القرية الشاب ذي الأصول الفقيرة والمتحمس للعمل الخيري والذي يشعر بقربه من زوجته، وهنا يخوض نقاشا آخر يعمق جيلان من خلاله (كما تشيخوف) أزمة شخصيته وازدواجية أخلاقها البرجوازية.
ويصل الفيلم الى ذروته مع ذهاب نهال إلى منزل عائلة إسماعيل لاعطائهم المال الذي يكفي لشراء المنزل، وهو أحد اجمل مشاهد الفيلم، حيث يستقبلها الأخ الشيخ وتعاملها الام العجوز والطفل بحذر، وحين تحاول إعطاء المبلغ الى الشيخ على انفراد يدخل إسماعيل مخمورا ويأخذ المبلغ ويبدأ بتقسيمه على دفعات يصورها كتعويضات عن ما ارتكب بحق عائلته من عائلة آيدن، لكنه في النهاية ينتصر لكرامته بإلقاء كامل المبلغ في نار الموقد، لتعود نهال كسيرة وتفشل تلك المحاولة (المثالية) للمصالحة الطبقية.
وينهي جيلان فيلمه بالعودة الى آيدن شخصيته الرئيسية ليصوره وقد قرر التفرغ لمشروع كتاب كان يحلم بكتابته عن تاريخ المسرح التركي.
براعة أسلوبية
واذا كنا قد أشرنا إلى براعة جيلان في مشاهد الطريق وفي اللقطات العامة الطويلة واحساسه العالي بجماليات المشهد الطبيعي، نجده في هذا الفيلم يثبت براعة أخرى في بناء المشهد الداخلي وفي أماكن مغلقة محدودة، مقدما لقطات قريبة رائعة لوجوه شخصياته وسط توزيع رائع للظلال والضوء يعكس في الغالب حالتها النفسية.
ونجح مدير تصوير الفيلم جوخان تيرياكي أن في توزيع مصادر إنارته واستثماره للظلال والبقع المعتمة أن يوفر أجواء تعبيرية عكست تلك الكآبة والرتابة التي تلف الشخصيات، وقد انسحب ذلك أيضا على استخدامه التكرار واللقطة الثابتة المتكررة المتبادلة بين الشخصيات المتحاورة وبشكل خاص حوارات آيدن مع نهال ونجلاء.
وكان جيلان يتنقل ببراعة بين الداخلي والخارجي، في تقديمه ذاك المضمون الروحي العميق والتحولات الباطنية لشخصياته، محاولا إيجاد معادلات موضوعية بصرية لتلك التحولات التي تتكشف وسط حوارات مكتوبة بدقة عالية وباحساس سخرية عال يتكشف وسط واقع تراجيدي، وضمن بناء تصاعدي يكشف تحولات شخصياته المأزومة (مع التأكيد على أن تشيخوف هو نموذجها الأساسي أيضا).
واقترب جيلان في فيلمه هذا أيضا من سينما المخرج السويدي أنغمار برغمان لاسيما في تلك الحوارات الطويلة التي تناقش قضايا ميتافيزيقية واسئلة وجودية، وسط ميل لاستثمار آليات التحليل النفسي لأزمات شخصياته.
وأمام فيلم يستغرق عرضه على الشاشة 3 ساعات و16 دقيقة، يمكننا الحديث عن أهمية البطء والاحساس بالملل في فيلم جيلان، الذي يعمق احساسنا برتابة وكآبة الحياة اليومية التي تجري على وتيرة واحدة وواقع الاستلاب الذي يتكشف على مهل، وكعادة تشيخوف يمور تحت رتابة الحياة اليومي توتر داخلي وصراع حاد في دواخل شخصيات مأزومة غير قادرة ابدا على تغيير واقعها.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك ...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: