حكواتي مراكش: كفاح من أجل الحفاظ على المهنة
مراكش – (بي بي سي):
تضرب مهنة سرد القصص في مدينة مراكش المغربية بجذورها العميقة في التاريخ، إذ يُعتقد أن مهنة السرد تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي.
لكن السؤال: هل حلّت مظاهر الحياة الحديثة محل هذا النوع من الفن؟
يُعتبر مقهى (كافيه دي فرانس) في مراكش، ثالث أكبر مدن المملكة المغربية سكانا، بمثابة مؤسسة، فهو أقدم وأشهر الأماكن المحيطة بالميدان الرئيسي في المدينة، وهو جامع الفنا.
ويرجع تاريخ المقهى إلى فترة الحماية الفرنسية، حتى إنك إذا دخلته لن تشعر بتغير أي شيء من زخارفه ولا حتى الأشخاص الذين يعملون فيه منذ ذلك الوقت.
في المقهى، تحاول مراوح السقف الدوارة تخفيف حدة الحرارة الخانقة التي تضرب المكان.
وتجد في بعض الزوايا صورا للملك محمد السادس معلقة على جدرانه القرميدية الزرقاء والبيضاء.
يجلس الزبائن داخل المقهى على مقاعد مصنوعة من الخيزران يرتشفون الشاي بالنعناع والقهوة، فيما يحاول السائحون في شرفته تفادي الصبية ماسحي الأحذية وباعة السجائر المتنقلين، في الوقت الذي يجلس فيه السكان المحليون ينظرون إلى الميدان الصاخب وهم يتناولون المشروبات.
في هذا المكان، وتحديدا عام 2006، قابلت عبد الرحيم المكوري للمرة الأولى، إنه رجل طويل القامة، يرتدي طربوشا، عيناه برّاقتان، ذقنه قصير وله أنف مميز.
ويمتهن عبد الرحيم، أحد أفراد جماعة ''حلايقية'' كما يطلق عليها، سرد القصص والأساطير في المغرب.
يجلس الرجل في المساء، بعدما تغيب الشمس وينادي المؤذن للصلاة، ساردًا قصصه وأساطيره القديمة أمام الجمهور المستغرق وسط الميدان، مقابل بعض العملات المعدنية في حالة استمتاع الجمهور بقصصه.
''احتراق مكتبة''
في مدينة مراكش، يقول مثل شهير: ''موت حكواتي كحريق مكتبة''، فمعظم القصص والحكايات موجودة فقط في رؤوس هؤلاء الرواة، الذين يأخذون معهم إلى قبورهم هذا الكم الهائل من التراث الشعبي.
ولطالما رأى عبد الرحيم كثيرًا من أقرانه في الماضي يأتون ويذهبون، مات معظمهم، وتقاعد آخرون حتى إن واحدا منهم امتهن مسح الأحذية، لا يوجد الكثير منهم على قيد الحياة، كما أن الجمهور الذي اعتاد الانصات إليهم أصبح يلجأ إلى شاشات التليفزيون.
كان هناك 18 شخصا من الـ ''حلايقية'' يسردون قصصهم ويروونها في ميدان جامع الفنا في سبعينيات القرن الماضي.
وفي عام 2006 أصبح هناك شخصان فقط من جماعة ''حلايقية'' هما عبد الرحيم ومولاي محمد الذي توفي، و كان طاعنا في السن.
قضيتُ عدة ساعات مع عبد الرحيم، الذي كان يأمل في أن يصبح ابنه زهير حكواتيا أيضا، في مقهى (كافيه دي فرانس) لنسجل قصصه للأجيال القادمة ونوثقها أيضًا في كتاب.
يذكر أن أحد صناع الأفلام الألمان أنتج فيلما وثائقيا عن عبد الرحيم وابنه، يحكي قصة المعلم وتلميذه، وهو فيلم عرض في مهرجان مراكش السينمائي الدولي .
لكن زهير لم يستطع تحمل هذه الشهرة المفاجئة، وأصيب بنوع من الانهيار العصبي، إذ كان يستيقط والداه على صراخه الشديد أثناء نومه، كما اضطرا بعد ذلك إلى إخراجه من المدرسة، ليخوضا معاناة شديدة لتوفير المال لعلاجه.
ولعله إذ قدر لزهير الشفاء سيصبح حكواتيا في الميدان.
وقال عبدالرحيم: ''انظر، ألا ترى؟ ليس هناك أي مكان لرواة القصص''، كان يشير إلى أكشاك التجار المزدحمة الذين يبيعون كل شئ، من المنشطات الجنسية إلى أطقم الأسنان.
وأضاف :''هذا إلى جانب الضوضاء الشديدة''.
وربما يكون محقا لأن فن سرد القصص، الذي يعتقد أن عمره نحو ألف عام، يتميز بصفة خاصة ألا وهي أنه لا يتماشى مع الضوضاء، أو التكنولوجيا الحديثة أو حالة ''الهياج'' العامة التي تغمر الناس في مراكش.
حينما عدت إلى بلادي كتبت خطابا إلى القصر الملكي، دون أن أتوقع الاستجابة، شرحت فيه لمستشاري الملك معاناة عبدالرحيم وأنه يحتاج مكانا حيث يستطيع هو وابنه سرد القصص في المستقبل لإنقاذ هذه الموروث الثقافي القديم من الاندثار.
عدت إلى مراكش منذ أسابيع قليلة ووجدت أن رجلا بريطانيا قد أنشأ مقهى جديدا ربما يحظى في يوم من الأيام بشهرة مقهى (كافيه دي فرانس).
هذا المقهى يحي فن سرد القصص، حيث يتعلم الشباب المغربي القصص القديمة من الأجيال التي تكبره سنا.
رتبت للقاء عبدالرحيم في مقهى (كافيه دي فرانس) لإخباره بهذا النبأ الجيد، لكنه بادرني مبتسما وقال: ''وأنا أيضا لدي خبر طيب، لقد استجاب الملك لخطابك واشترى لي منزلا''.
اندهشت لسماع ذلك لكنني تذكرت مثلا مغربيا يقول: ''ليس هناك شيء مؤكد، بل كل شيء ممكن''.
تعد مدينة مراكش أغرب مكان رأيته، بل في الحقيقة هي أغرب من الخيال.
أين يمكنك شراء منشطات جنسية وأطقم أسنان سوى في مراكش؟
أين يمكنك سماع قصص أقدم من الحوائط العتيقة وأسوار المدينة التي تعود للعصور الوسطى سوى في مراكش؟
أين تجد ملكا يشتري منزلا لحكواتي سوى في مراكش؟
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: