لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

في يوم الحج الأكبر

08:02 ص الأربعاء 23 سبتمبر 2015

في يوم الحج الأكبر

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

بقلم – الشيخ أكرم مظهر (رحمه الله):

لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

بالتلبية تلهج الألسن، ومن وراء هذه الألسن قلوب خاشعة، ترويها أعين دامعة، وتمتد الأكف، وحق لها أن تمتد، ولم لا؟ وهي تمتد لرب العالمين، فإن الذل مذموم إلا على أعتاب فضله، والسؤال يثقل على القلوب إلا إذا كان للكريم الجواد.

فهل على غير أبواب فضله يحلو التذلل والخشوع، وله وحده يحمل السؤال والتضرع.. فهو الذي لا يسأم من سؤال السائلين، ولا يمل من توبة المذنبين، فإن الله لا يمل حتى تملوا، كما قال سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.

لبيك اللهم لبيك، وكأننا نسمعهم ونعاينهم، فكما قال القائل:

يا راحلين إلى منى بقيادي *** شوقتموا يوم الرحيل فؤادي

سرتم وسار دليلكم يا وحشتي *** والشوق أقلقني وصوت الحادي

نعم كأننا نسمعهم، فإن كانوا قد سبقونا وهيأ الله لهم الأسباب للوصول إلى عرفات، فكم من قلب تركوه وراءهم يهيم شوقًا لهذا الموقف. 

هاهم الحجيج يشهدون خير يوم طلعت عليه الشمس، هاهم يقفون موقفا يرجعون منه كيوم ولدتهم أمهاتهم، هاهم تسيل دموعهم حبًّا وشوقًا وندمًا وحياءًا، اختلطت المشاعر بين فرح بالوصول وبين رغبة في القبول، بين ندم واستغفار وبين قفر واضطرار.

فيض من المشاعر المختلفة يشعر بها الإنسان في هذا الموقف، وهو يكاد لا يصدق أنه قد وصل إلى عرفات. من أنا؟ من أنا حتى يكرمني الله بهذا المشهد؟ من أنا حتى يباهي بي الحق ملائكته؟ أسئلة وأسئلة تدور في ذهن الحاج وهو يشهد خير أيام السنة، يوم عرفة.

هنا وقف الحبيب،) وقفت هنا وعرفة كلها موقف(.. [أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود]، هكذا يقول صلوات الله وسلامه عليه، صدق من سماك الرءوف الرحيم، يخشى أن يشق على الأمة، يخشى أن يقتل بعضنا بعضًا ونحن نحاول أن نقف حيث وقف.. يخطب في الناس ويوصيهم، يحرم عليهم أموالهم ودماءهم وأعراضهم، ويوصي بالنساء، يضع للأمة ميثاقها ويرسم لها طريقها ويأمرنا بالبلاغ عن حضرته صلوات ربي وسلامه عليه.

نعم، يترك لك ميراثًا وهو البلاغ نيابة عنه، أي عز هذا؟ وأي شرف هذا؟ نبلغ عن رسول الله ونحمل دعوته من بعده.

اليوم من أيام النفحات التي أمرنا الرسول الكريم أن نتعرض لها، نعم ما علينا إلا أن نتعرض للعطاء، فالعطاء وافر فياض من لدن الكريم سبحانه .. نفحات في الزمان، ونفحات في المكان، ونفحات في الأشخاص .. يتنــزل عطاؤه في كل زمان، ولكن لبعض الأزمنة خصوصية في مضاعفة الأجور، وغفران الذنوب، وفتح أبواب القبول. ويومنا هذا من أعظم هذه الأيام، بل أعظمها وأفضلها.

والله يقبلنا في كل مكان، ولكن لبعض الأماكن خصوصية، وهاهم قد وقفوا في صعيد عرفات حيث يتجلى عليهم الحق سبحانه فينظر إليهم بعين الرحمة، ويغفر لهم ما مضى من الذنوب والآثام.

أما عن النفحات في الأشخاص، فإن مجالسة الصالحين وصحبتهم، ومعية أهل الذكر ومشاركتهم بها تكون ممن سعد وفاز فإنهم القوم لا يشقى جليسهم.

وياليت الأمة تنظر إلى حالها في هذا اليوم، وكلنا يقف هذا المو قف، ويشهد هذا المشهد، ذابت الفوارق وغابت الخلافات، فلا سني ولا شيعي، لا سلفي ولا صوفي، يذوب بعضنا في بعض، يموج بعضنا في بعض، ونقف في موقف واحد، في يوم واحد، ندعو ربًّا واحدًا، نتبع نبيًّا واحدًا، نتوجه لبيت واحد، ينظر إلينا العالم على أننا شيء واحد (مسلمون)، ونحن نأبى إلا أن نكون كثير.

ليت القلوب تفقه، والآذان تسمع، والأعين تبصر، نحن أمة واحدة، فهاهم يقفون معًا، يدعون معًا، يصلون معًا، يتوحدون في الزمان والمكان والوجهة والقصد.

أفيقوا أيها الناس، فإن الله لا يرضى عن هذا الخلاف، لا بد من إخماد هذه الفتن، وإحياء روح المحبة في هذه الأمة.

في هذا الموقف، وفي اليوم نفسه وقف الحبيب يوصينا ويذكرنا ويحذرنا، إن كلماته قد عبرت الزمان ووصلت إلينا، إلا أننا نحتاج أن نسمعه بقلوبنا .. نحتاج أن نسمعك يا سيدي بقلوب مهيأة لأن تستجيب لقولك.

ها هو الحبيب على ناقته ينادي أصحابه ويوصيهم، وها هو يشهدهم ويشهد عليهم، ويشهد الله عليهم .. ألا هل بلغت؟ نعم، اللهم فاشهد .. ياله من موقف. الرسول يشهد ربه على بلاغه لأمته، النبي يبرئ ذمته، ويشهد ربه على أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة .. ونحن نشهد لك يا سيدي أنك قد بلغت وأديت ونصحت، نعم بلغت الرسالة، فهل من اتباع صادقين لرسالتك .. 

نعم يا سيدي أديت الأمانة، فهل من حملة لأمانتك؟

نعم يا حبيبي نصحت الأمة، فهل من مستجيب لنصيحتك؟ وددنا لو كنا معك في حجة الوداع، نسمع هذه الكلمات التي نفذت إلى القلوب، ننظر إلى وجهك الذي يتلألأ نورًا مستمدين من هذا النور شعاعًا نحمله ونسير به، ولِمَ لا نستنير؟ بل وكيف لا نستنير بمن هو السراج المنير؟ ولكننا وإن لم نكن في الصحبة لأنه قد فارق بيننا وبينه الزمان إلا أننا على هذا القدم نسير، فهو الذي قال: (خذوا عني مناسككم) .. [رواه أحمد ومسلم والنسائي]، وها هي الأمة تؤدي هذه المناسك التي أخذتها عن نبيها وإمامها صلى الله عليه وآله وسلم.

ها هي الأمة تقف حيث وقف حبيبها، تخطو على الأثر، وتسير على القدم، فليت هذا الاتباع في النسك يسري سره ونوره في النفوس فيثمر اتباعًا في الخلق.

ليت هذا النور والعطاء الذي يفيض به الحق على الحجيج يتلقاه من يتلقاه بهمة عالية تحمله على شكر النعمة وحفظها، فيرجع من يرجع من الحج وقد تبدل من حال إلى حال، يرجع بثمرة التقوى التي يستنير بها القلب وتتزكى بها النفس.

وليت نور هذا اليوم العظيم يسري في قلوبنا أيضا فيكون لنا نصيب من بركة هذا اليوم العظيم، ونرى من أنفسنا همة تحملنا على الإقبال على الله بنية صادقة لنرى تغييرًا في أنفسنا وأهلنا وبلدنا وأمتنا.

ليتنا نعرف كيف نحب .. نعرف كيف يسكن في قلوبنا حب لهذه الأمة نغار به عليها، ونعرف به أننا جزء من كل، وعضو في جسد. ليت نور هذا اليوم يمحو الظلمة من القلوب، ظلمة البغض والحسد والحقد والغل .. ظلمة البطش والجبروت والظلم والقهر. ظلمة وظلمة وظلمة، نعم ظلمات كثيرة نحتاج لأن نخرج منها؛ ولذا قال ربنا في كتابه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور}.. [البقرة : 257].

نعم ظلمات كثيرة ونور واحد، فمصادر الظلمة متعددة، وكل يغلف القلب بنوع من الظلمة، وصاحب النور واحد، والمخرج من النور واحد سبحانه وتعالى.

ليتنا نعي ونفهم أن الله يأمرنا في هذه النسك أن نتجرد، نتجرد من الدنيا وما فيها، حتى إن الرجل يترك ما تعود عليه من ثيابه ويبقى ما يستر جسده، نتجرد عن شهواتنا المباحة، فإذا أتى أحد زوجته فسد حجه ووجب عليه إتمامه والقضاء في العام التالي. إن الله يباهي بعباده وقد أتوه شعثًا غبرًا، ألا يعني كل هذا لنا شيئًا.

ولو فهمنا رسائل الحق لنا، لخلعنا الدنيا وما فيها من قلوبنا، وفرغناها لحب الله والعبودية له وحده، لو عبرنا بقلوبنا من المبنى إلى المعنى، ومن الظاهر إلى الباطن، لأحرمت البواطن ما الظواهر، ولكنها تحرم إحرامًا لا تحلل منه، فتبقى على تجردها لله وحده، ولعلمت أن ميلها إلى هذه الشهوات والتعلق بها يفسد عليها إحرامها.

إن هذه العبودية لله وحده هي الحرية الحقيقية، لأن تجريد القلب من غير الله يخرجك من الأسر، الأسر للعادات، الأسر للشهوات، الأسر للمخلوقات، فتصير حرًّا طليقًا، عبدًا للملك الذي يستحق أن يعبد وحده سبحانه، فلا خوف من غيره، ولا رجاء في غيره، ولا اعتماد على غيره، حرية كاملة من كل غير وعبودية كاملة لله وحده.

يجب أن ننظر إلى المعاني ولا نقف عند المباني فنحجب بها، فالأمر مقصده التقوى، والتقوى غيرة مرئية؛ فهي معنى مستقر في قلوب أهله، ولكن يظهر عليهم آثاره، فهذا المعنى الباطن له انعكاس ظاهري على أصحابه، ولا يكفي أن أن نقوم بما يقومون به في الظاهر دون أن نملأ قلوبنا بما ملئوا به قلوبهم في الباطن.

وهذا الحج، الحج الأكبر كما سماه الحق في كتابه مبانٍ ومن ورائها معانٍ، نسك وأوامر ظاهرية، ولكن من ورائها {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}.. [البقرة : 197]، أيام مبيت في منى لكن من ورائها {لِمَنِ اتَّقَى}.. [البقرة : 203]، ذبح ودماء تسيل، ولكن من ورائها{وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}.. [الحج : 37].

في من وراء كل أمر ظاهري وعبادة حسية، ينبهنا الله سبحانه وتعالى حتى لا نغفل ونغيب عن المراد الباطن والسر المعنوي المطلوب، ألا وهو العبودية والتقوى لعلام الغيوب.

ما أعظم هذا الدين، وما أجمل هذه الشريعة وأكملها .. ولا نقول أن هذا الدين يصلح لكل زمان ومكان، ولكن نقول أن بهذا الدين يصلح الزمان والمكان .. ولكن هذا الدين يحتاج إلى قلوب تحمله كما حملته قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين حملوا وبلغوا عن حضرته، ففتحوا القلوب قبل أن يفتحوا الأبصار.

فاللهم ارزقنا قلوبًا نفقه بها، وبصرنا بمرادك منا، وبلغ بنا دينك يا رب العالمين.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان