ضغوط العمل لا يقل تأثيرها في الصحة عن التدخين السلبي
-مصراوي:
تعرّض الموظفون في بيئات العمل الحديثة لضغوط نفسية عديدة قد تؤدي إلى عواقب خطيرة على صحتهم. ويرى جيفري فيفير، مؤلف كتاب "الموت من أجل ضمان لقمة العيش"، أن الممارسات السلبية في بيئات العمل ليست في مصلحة الشركات، ويحذر من نذر أزمة صحية جديدة تغض الحكومات الطرف عنها، بحسب ما ذكرته وكالة بي بي سي العربية.
في عام 2016، أقدم مهندس برمجيات بشركة أوبر، يحصل على راتب يفوق 100 ألف دولار، على الانتحار، وتقول عائلته إن الضغوط النفسية في بيئة العمل هي التي دفعته إلى اتخاذ هذه الخطوة.
وفي لندن انهار متدرب في بداية العشرينيات من عمره تحت وطأة المجهود الشاق، وعثر عليه ميتا في مسكنه في لندن بعد أن ظل يعمل على مدار 72 ساعة متواصلة في مصرف "بنك أوف أمريكا- ميريل لينش".
وبعد ثلاثة أسابيع من قرار شركة "أرسيلور ميتال" لصناعة الصلب بإغلاق أحد مصانع الصلب التي استحوذت عليها، توفي أحد الموظفين في السادسة والخمسين إثر إصابته بسكتة قلبية، وقالت عائلته إنه لم يتحمل الصدمة.
وأفاد تقرير للوكالة الأوروبية للسلامة والصحة في بيئة العمل بأن ما يزيد على نصف الأيام التي يتغيبها الموظفون عن العمل دون عذر مقبول، والبالغ عددها 550 مليون يوم عمل سنويا، لها علاقة بالضغوط النفسية في بيئة العمل.
وفي عام 2015، خلص تحليل لنحو 300 دراسة إلى أن الممارسات الضارة في بيئة العمل لا تقل خطورة على الصحة من التدخين السلبي، الذي يُعرف بأنه أحد العوامل المسببة للسرطان، سواء من حيث زيادة احتمالات الوفاة أم الإصابة بالأمراض التي يشخصها الأطباء.
وتتضمن الممارسات الضارة بالصحة في بيئة العمل، ساعات العمل الطويلة والتعارض بين العمل والحياة العائلية، وغياب الأمان الاقتصادي الناتج عن فقدان الموظفين لوظائفهم أو العمل بوظيفة ذات ساعات عمل غير منتظمة، أو لا يمكن التنبؤ بها، والعجز عن السيطرة على سير العمل، وهناك سبب إضافي في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو غياب التأمين الصحي.
إن بيئة العمل تصيب الموظفين بالأمراض، وقد تدفعهم للانتحار، وهذه المشكلة باتت تستدعي الاهتمام والحذر. إذ أصبحت بيئة العمل إحدى المشكلات الصحية الكبرى التي يواجهها الناس، في ضوء ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية في العالم.
ويقول بوب تشابمان، رئيس مجلس إدارة مؤسسة "باري ويميلر" للتصنيع: "بحسب مؤسسة 'مايو كلينيك'، إن مديرك في العمل أكثر أهمية لسلامتك من طبيب الأسرة".
وذكر المنتدى الاقتصادي العالمي (منتدى دافوس) أن الأمراض المزمنة والأمراض غير المعدية تستهلك نحو ثلاثة أرباع حجم الإنفاق على الرعاية الصحية، وتتسبب في 63 في المئة من إجمالي الوفيات في العالم.
وتعد الأمراض المزمنة جزءا من تبعات الضغط النفسي والتوتر والسلوكيات غير الصحية كالتدخين ومعاقرة الكحول وتعاطي المخدرات والنهم في الطعام، التي يزيد من حدتها الضغط النفسي.
وأوضحت دراسات عديدة أن بيئة العمل هي السبب الرئيسي للضغوط النفسية، ومن ثم تعد أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى أزمة الرعاية الصحية.
ويشير المعهد الأمريكي لأبحاث الضغط النفسي إلى أن الإجهاد والتوتر في بيئة العمل يكلّفان الاقتصاد الأمريكي نحو 300 مليار دولار سنويا.
وقد انتهت بحث شارك في إعداده ونشر في إحدى الدوريات الكبرى إلى أن الممارسات الإدارية الضارة تزيد أعداد الوفيات في الولايات المتحدة بواقع 120 ألف حالة وفاة سنويا، وتكبد هذه الرعاية الصحية الإضافية الاقتصاد 190 مليار دولار سنويا.
وبهذا تحتل بيئة العمل المرتبة الخامسة بين الأسباب الرئيسية المؤدية للوفاة، أي أنها أشد فتكا من أمراض الكلى أو ألزهايمر.
وأفاد تقرير للهيئة التنفيذية للصحة والسلامة بالمملكة المتحدة بأن عدد أيام العمل الضائعة كنتيجة للضغط النفسي والاكتئاب والقلق لأسباب ذات صلة بالعمل بلغت 12.5 مليون يوم في الفترة ما بين عامي 2016 و2017.
بيد أن الممارسات السلبية في بيئة العمل لا طائل منها، لأنها لا تؤذي العاملين فحسب، بل لا تنفع الشركة أيضا. إذ تؤثر ساعات العمل الطويلة على سبيل المثال بالسلب على إنتاجية الموظف في الساعة، سواء على مستوى المؤسسات، أو على المستوى القومي.
وأشارت دراسة على موقع "ماركت ووتش" إلى أن التسريح المؤقت أو الدائم للموظفين لا يحسن أداء المؤسسة، بل على العكس يدفع أفضل الموظفين لمغادرة الشركة، ناهيك عما تتكبده الشركة من تكاليف مباشرة، مثل تعويضات الفصل عن العمل، وتكاليف غير مباشرة مثل فقدان الموظفين الذين أقاموا علاقة وطيدة مع العملاء، وفي الكثير من الأحيان لا يوفر تسريح الموظفين على المؤسسة مبالغ تذكر.
وانتهى الكثير من الأبحاث على مدار عقود إلى أن إعطاء الموظف مطلق الحرية في تحديد الزمن والطريقة المناسبين لتنفيذ المهام المسندة إليه يساهم في تحفيزه ويزيد شعوره بالمسؤولية.
وبالعكس، فإن الموظف الذي يعاني من التوتر والإجهاد بسبب الضغوط في بيئة العمل أكثر عرضة للاستقالة، ويترتب على ارتفاع معدل دوران العمالة (معدل مغادرة الموظفين للمؤسسة وتعيين غيرهم في مكانهم) تكاليف باهظة.
وطالما أثبتت الأبحاث أن المرض والضغط النفسي يضعفان كفاءة الموظفين ويقللان قدرتهم على الإنتاج، وهذه المعلومة قد تكون بديهية.
وتشير جميع الشواهد إلى أن بيئات العمل تزداد سوءا، إذ بات تقليص الوظائف، الذي كانت الشركات فيما مضى تضطر إليه في أوقات الأزمات الاقتصادية الطاحنة، إجراء معتادا في المؤسسات في الوقت الراهن.
وبعد أن ساهمت شركة "ثري جي كابيتال" في إبرام صفقة اندماج شركتي "هاينز" و"كرافت" للمواد الغذائية، أعلنت الشركة الأم عن تسريح 20 في المئة من العمال، بعد أن أدمجت خطي الإنتاج وألغت الوظائف المتداخلة.
وقد أدى تنامي ظاهرة العمل المستقل وانتشار الوظائف المؤقتة والقصيرة الأجل، إلى زيادة الشعور بانعدام الأمان الاقتصادي بين الموظفين، بسبب تأرجح دخولهم من أسبوع لآخر.
وفي ظل اعتماد متاجر البيع بالتجزئة وغيرها من الشركات، مثل الفنادق والمطاعم، على برامج الكمبيوتر والخوارزميات لوضع الجداول للموظفين بناء على تحليلات لاحتياجات الشركة المتوقعة، أصبح العاملون تحت رحمة البرامج الإلكترونية، ولم يعد بمقدورهم التنبؤ بدخلهم الشهري، وبات من الصعب عليهم التخطيط لحياتهم والوفاء بأعباء الأسرة.
والأهم من ذلك، أنه في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كان الرؤساء التنفيذيون يدركون أن المنصب يفرض عليهم التزامات متساوية تجاه المساهمين والعملاء والموظفين والمجتمع، تحت مظلة نظام رأسمالي تتساوى فيه مصالح الجميع يسمى "رأسمالية أصحاب المصالح".
ولكن مصلحة المساهم الأن تطغى على ما سواها. ويبدو أن القليل من الرؤساء من يدركون أنهم مسؤولون عن الصحة البدنية والنفسية للأشخاص الذين يعملون تحت إمرتهم.
وفي المقابل، بعض الرؤساء لا يتهاونون في مسألة الاعتناء بموظفيهم، فبعض الشركات مثل "باتاغونيا"، و"كوليكتيف هيلث" ومعهد "ساس" لتطوير برامج التحليلات وشركة "غوغل"، وشركة "جون لويس بارتنرشيب"، التي يمتلكها موظفوها، وشركة "زيلو"، تتبنى نموذجا مختلفا في التعامل مع موظفيها.
إذ يحصل العاملون في هذه الشركات على إجازات مدفوعة الأجر، ولا يتوقعون أن يزعجهم أحد في هذه الإجازات، فلا يرسل لهم مديروهم رسائل عبر البريد الإلكتروني، أو عبر الهاتف طوال اليوم.
إذ اعتاد الموظفون على العمل في ساعات العمل الرسمية ثم العودة لمنازلهم للراحة واستعادة نشاطهم. وتوفر لهم هذه المؤسسات أماكن السكن أو الإقامة المؤقتة لتكفل لهم الوظيفة والاستقرار العائلي.
كما تُمكّن هذه المؤسسات موظفيها وتعطيهم مطلق الحرية في تحديد المهام التي سينفذونها بالطريقة التي تناسبهم، لتلبية الالتزامات التي تقتضيها الوظيفة، وهذا يعني أن الإدارة لا تتحكم في كل صغيرة وكبيرة في المؤسسة.
والأهم من ذلك، أن هذه الشركات تدار بواسطة أفراد يأخذون التزامهم تجاه الموظفين على محمل الجد. ويهتم مدير الشؤون الصحية لدى معهد "ساس" بصحة الموظفين كاهتمامه بمراقبة التكاليف.
ويقول بوب تشابمان، الرئيس التنفيذي لشركة "باري ويميلر" إن كل من يلتحق بالعمل في الشركة "له أبوان يعتزان به"، أو له عائلة تهتم لأمره.
وكتب مؤسس شركة "باتاغونيا" كتابا تحت عنوان "اطلق للموظفين الحرية للاستكشاف وركوب الأمواج". ويحصل كل موظف في شركة "باتاغونيا"، لملابس ومستلزمات الرحلات والمغامرات في الهواء الطلق، على تأمين صحي من اليوم الأول لالتحاقه بالعمل في الشركة، بالإضافة إلى ثلاثة أيام عطلة كل أسبوعين ليستمتع الموظفون بالطبيعة.
ولهذا ينبغي ألا يكون المعيار الوحيد عند اختيار الوظيفة الجديدة الراتب المجزي أو فرص الترقية، بل يجب أن يأخذ الموظفون في الحسبان مدى تأثير هذه الوظيفة على صحتهم البدنية والنفسية.
ومن ناحية أخرى، يتعين على رؤساء الشركات أن يهتموا بمراقبة التزام الجميع في الشركة بالمعايير والممارسات التي تحافظ على صحة الموظفين نفسيا وبدنيا، ولا ينصب اهتمامهم على جني المال فحسب.
وينبغي على الحكومات التركيز على إصلاح بيئات العمل لحل أزمة ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية التي شغلت اهتمامها مؤخرا، لأن الإجهاد الناتج عن ضغوط العمل يؤدي إلى الإصابة بالأمراض. وكل هذا لا داعي له، فالراتب لا يستحق أن نموت من أجله.
جيفري فيفير هو أستاذ السلوك التنظيمي بكلية إدارة الأعمال بجامعة ستانفورد. ونُشر مقال "الموت من أجل تأمين لقمة العيش: كيف تؤذي الأساليب الإدارية الحديثة صحة الموظف وتؤثر على أداء الشركة، وما الذي يمكن أن نفعله للتصدي لهذه الممارسات السلبية"، في مارس/أذار 2018.
فيديو قد يعجبك: