مفتي الجمهورية يكتب: من خصائص الخطاب الدينى.. العالمية «1»
يتميز الخطاب الدينى الإسلامى بالعالمية، هذه الميزة استمدها من الخطاب القرآنى، الذى جاء خطابًا موجهًا للبشرية أجمعين، على اختلاف أعراقهم وأجناسهم وألوانهم واختلاف ألسنتهم وعاداتهم وتقاليدهم، لذا خاطبهم القرآن الكريم بقوله تعالى: «يا بنى آدم»، و«يا أيها الناس»؛ فالإسلام دين عالمى وكذلك خطابه، جاء للناس كافة، فقال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً»، وقال عزَّ وجل: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» لكل العالمين وليس الأمر مقصورًا على المسلمين.
وإذا كان الخطاب القرآنى قد جاء متنوع الدلالة والغاية؛ كالخطاب الدعوىِّ، والتّرغيبىِّ، والتّرهيبىِّ، والبرهانىِّ، والعلمىِّ، والتّاريخىِّ، والتّشريعى، وكلها تخاطب الناس عامةً على الإطلاق دون تقيد بالزمان والمكان؛ فأحرى بخطابنا الإسلامى اليوم أن ينهل من هذا المعين الذى لا ينضُب، ويطبق ما جاء فيه، ويتَّبع نهجه، ليؤلِّف القلوب قبل الصفوف، ويرسِّخ فى النفوس الانتماء والولاء للدين الذى يكون من أجلِّ ثماره الولاء للأوطان وللأمم.
وإذا أردنا أن نخلع على خطابنا الإسلامى صفات الخطاب القرآنى فلابد أن نعلم جيدًا حقيقة عالمية هذا الخطاب، فالشيخ الغزالى وصفه بأنه خطاب عالمى، ورسالته خاتمة، وله بُعد فى الزمان الماضى والحاضر والمستقبل، وله بُعد فى المكان بحيث يشتمل العالم كله. لذا جاءت صياغة التشريع عامة كى تستوعب قضايا الإنسان وحاجاته المتجدّدة فى حاضره ومستقبله.
وعليه فقد جاءت معظم النصوص القرآنية عامة فى لفظها ومعناها، وظهرت القاعدة الأصولية الشهيرة: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، التى تعنى أن أسباب النزول لا تُقيّد معانى النصوص ودلالاتها بمن نزل فيها، بل تتعدّى لتشمل غيرها ممن لم ينزل فيهم الخطاب، ليأتى دور الخطاب الإسلامى المتسم بالتجديد من خلال علماء نذروا أنفسهم وأعملوا عقولهم لاستخلاص الأحكام التى تناسب ما استجد فى الزمان والمكان ولكى تجد الأمة ما يهديها إلى الطريق المستقيم.
وإذا كان الخطاب القرآنى المنزَّل من عند الله تعالى قد جاءت معظم نصوصه ظنيَّة الدلالة وتحتمل أكثر من معنى، من أجل أن يتّسع تفسيرها بما يتلاءم والمقصد من عالمية هذا الخطاب، فأولى بخطابنا الإسلامى اليوم أن يتأسى به، فهو خطاب لا تعترضه ظواهر جغرافية، ولا أحداث تاريخية، ولا تطوّر حضارى للبشرية، والفقه الإسلامى خير شاهد على ذلك؛ لأنه ذو نزعة عالمية حتى ولو كتب بالعربية إلا أن مصدره وهو القرآن الكريم يتميز بالنزعة العالمية، وهذا الفقه قد أثر فى كل بقاع الأرض ولم يعجز يومًا عن الوفاء بحاجة أهل هذه الأرض.
وعلى الرغم من أن الخطاب القرآنى بعالميته قد استطاع استيعاب الحضارات والأمم القديمة، بما تحويه من ثقافات متنوّعة وأديان متعدّدة وأعراف مختلفة، وعلى الرغم من عدم وجود ما يمنع أصحاب هذه الحضارات أو الأديان أو الثقافات من الاندماج مع المسلمين والتعايش معهم مع الحفاظ على خصوصياتهم الدينية والثقافية؛ فإن خطابنا الإسلامى اليوم بحاجة إلى إعادة النظر فى الأدوات التى يستعين بها فى توصيل مضمونه المتمثل فى صحيح الدين للمسلمين ولأصحاب تلك الحضارات الثقافات الأخرى.
وإذا كان هناك من يرى أن حركة التجديد قد أصابها شىء من الوهن أو السكون فى عصرنا، فواجب الوقت يحتم علينا أن نتأسى بالخطاب القرآنى الذى هو قادر على إعادة ذلك الدور المفقود؛ لأن الله تعالى هو الذى كتب له العالمية وحفظه من التّبديل والتّحريف «لَا يَأْتِيه الْبَاطِل مِنْ بَيْن يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفه»، وإذا كان أقصى ما وصلت إليه الحضارة المعاصرة هو إقرار التعدّد، فإن عالمية الخطاب الإسلامى عملت وتعمل على استيعاب التعدّد ليتحوّل إلى عامل دفع فى إطار تنوّع بشرى إيجابى تهيمن عليه أنوار الهدى وقيم البناء والعمارة.
فيديو قد يعجبك: