مضحون على الطريق: "لأجل إفطار مسافر يهوون التعب"
كتبت- إشراق أحمد:
لم يتخيل أحمد منعم قبل السابع عشر من مايو المنصرف، أن يُضحي بالجلوس مع أسرته على مائدة الإفطار في رمضان، لكن هذا العام أصبح غيابه يومًا تلو الآخر اعتيادياً، حتى أن زوجته باتت تسأله "هتفطر معانا النهاردة ولا هتشارك في توزيع الوجبات على الطريق؟".
منعم أحد المتطوعين ضمن 130 مشاركًا في محافظة الفيوم، يتولون على مدار 30 يومًا مهمة إفطار الصائمين المسافرين على الطريق، ضمن الحملة التي أطلقتها مؤسسة مصر الخير لإفطار 10 مليون صائمًا.
منذ مطلع الشهر الكريم، ويقطع الشاب العشريني نحو الساعة، من قريته طامية حتى وسط البلد في الفيوم، للقاء رفاقه المتطوعين، وتعبئة الوجبات ثم الانطلاق لتوزيعها على طريق الفيوم/ القاهرة.
علم منعم من صديق له، بشأن حاجة "مصر الخير" إلى متطوعين لتوزيع وجبات إفطار الصائمين المسافرين، تقدم بدافع التجربة إلى المقابلة التي أجريت قبل أسبوعين من شهر رمضان، لاختيار المشاركين "كان لازم نختار الناس بعناية لأن الموضوع مش توزيع وجبة لكن إحنا كمان واجهة أخلاقية" يقول مصطفى حسين مسؤول الحملة في الفيوم.
مع دقات الثانية ظهرًا تبدأ مهمة المتطوعين اليومية لتعبئة 500 وجبة، والتي قوامها معلبات "2 باتيه حادق، وواحد حلو، وبسكويت بالتمر وبطاطس، ومايه وعصير كلها نواشف عشان طبيعة الطريق" وفقًا لحسين.
يتبادل المشاركون المهام "اللي بيحضر التعبئة في يوم بيوزع اليوم التاني". يدًا بيد تُقسم مهمة وضع محتويات كل حقيبة وإحكام غلقها، لينطلقوا بعدها حتى يتخذون أماكنهم قبل ساعة من موعد الإفطار.
قبل مغيب الشمس، يصطف المتطوعون على الطريق، يحملون بين أيديهم حقائب الوجبات البلاستيكية، وكما أن للمشارك معايير من احتمال مشقة الانتظار والابتسام والتعامل بلطف، هناك صفات للمستهدفين من العمل الخيري يوضحها مدير الحملة في الفيوم "الأولوية للمسافر اللي مش هيلحق طريقه لكن قبل ربع ساعة خلاص أي حد على طريق ومش هيلحق يفطر".
أول أيام رمضان كانت الأصعب على منعم "قلت استحالة أكمل". بُعد المسافة فضلاً عن غيابه عن زوجته وابنه الصغير شكل عبئًا نفسيًا عليه، لكن مع الابتسامة والدعوة الأولى من صائم على الطريق غيرت المسار.
يومًا تلو الآخر "لقيت الموضوع بقى يفرق معايا أكتر، بقيت أحس أني بقدم رسالة، وجود البسمة على وش أي حد بتساعده أنه يفطر بتخلي الواحد يتحمل أي عب بيواجهه" يحكي منعم منشرحًا.
كذلك كان حال مسؤول الحملة في الفيوم، العام الماضي، حينما بدأت فكرة إفطار المسافرين "الموضوع كان صعب عليا جدا أني أقف في الشارع وأفضل أسأل الناس أنتوا مسافرين ولا لأ" أخذ الحديث يدور في نفس حسين، إلى أن صار ذلك العمل المحبب له "أني أجبر بخاطر حد دي مش حاجة سهلة".
مواقف عدة يمر بها أصحاب السترات الصفراء من المتطوعين على الطريق، يذكر منها حسين، اليوم الأول من التوزيع "أكتر من مرة كانت العربيات هتخبطنا لأن طريق الفيوم القاهرة مفيهوش مطبات، فكانت العربيات بتيجي بسرعتها جدا"، فاقترحت إحدى المتطوعات بجلب مخاريط الانتظار المرورية "الأقماع" لتهدئة سرعة السيارات، ونجح الأمر، ومن وراءه قصة يتبادلها المشاركون، إذ تبرع البائع بـثلاثة "أقماع" وقبل رحيل المتطوعة أخبرها "أنا مسيحي ودي أقل حاجة نساهم بيها معاكم لإفطار المسافرين".
يُقسم المتطوعون الطريق إلى حارتين بـ"الأقماع"، يشيرون إلى القادم من السيارات، يسألوه إن كان على سفر أم لا، البعض لا يتوقف، وأخرين يحملون صفة "مضلل" كما يقول حسين "بياخدوا وجبة ويلفوا الطريق ويرجعوا عشان ياخدوا تاني"، مما يضع على المتطوعين مسؤولية التركيز والتدقيق، حتى تصل الوجبات لمستحقيها.
ولا تخلو المهمة من اندهاش يُرسم على الوجوه، مثل الرجل الذي التقاه منعم في أيامه الأولى مع التطوع "بعد ما سألته أنت مسافر قال لي أها لو حابب تركب"، ظن المسافر أن الشاب يريد "توصيلة"، لكن بإمداد يده له بالوجبة، انفرجت أسارير الرجل وزاد على شكره لتحمله الوقوف في تلك الأجواء الحارة فقط من أجل إفطاره هو وغيره من المسافرين.
ردود فعل مختلفة يستقبلها المتطوعون، تتجاوز أحيانًا الابتسام وكلمات الشكر إلى نزول البعض واحتضان المشاركين حسب قول مسؤول الحملة، فيما لا ينسى منعم مشهد تقديمه وجبات لثلاثة أشخاص يستقلون "تروسيكل" بضاعة، اثنين منهما كانا نائمين بالخلف، وأثناء إيقاظهما للإفطار، ابتسم أحدهما للأخر قائلاً له "مش قلت لك متغلبش حالك كده كده ربنا هيرزق بالفطار".
على طريق الفيوم، يتسابق الجميع لنيل الثواب، لا فرق بين شاب وفتاة، كبير وصغير. إلى جانب حافلة المتطوعين، يبادر قرابة 5 أشخاص يوميًا للمشاركة بسياراتهم، ومَن يذق لذة التطوع مرة يعود مرات، حتى الصغار "معانا أهالي بيطلبوا منا أن ولادهم يشاركوا" يبتسم حسين بينما يشير إلى تخيل البعض أنهم كالمدرسة، غير أن الحملة ترحب بمشاركة الأعمار الصغيرة على استحياء "عشان ده طريق وممكن يحصل أي حاجة" لهذا كان الشرط أن يكون الحضور مع آبائهم حسب قول حسين.
يكاد شهر رمضان ينقضي، لكن حالة العطاء مستمرة في الطرقات لأخر يوم "إحنا بنفطر في الشارع" بضحكة يقولها حسين، لا يأسى الشاب على انقضاء الشهر دون مشاركة أسرته، يشعر أن الخير الذي يرى صداه يسبب له اكتفاء يربت على نفسه.
أما منعم، فتبدلت حالة أسرته، لم تعد زوجته تتذمر من غيابه، خاصة أن كثيرًا ما أصبح يلحق الزوج بهم "ربنا بييسر بقيت أوصل بعد الفطار بوقت قليل"، كذا استمرار حديثه عما يلاقيه من رفاقه المتطوعين ومشاعر المسافرين، دفع زوجته لمطالبته بالمشاركة معه، فيما بات ينتظر الأب اليوم الذي يعي فيه صغيره معنى التطوع، ويكون مكانه على الطريق يومًا ما.
فيديو قد يعجبك: