لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

بالصور- "من جلابيب المِعلّمين لبتوع السيما".. حكاية أقدم ترزي في الجمالية

07:57 م السبت 19 أغسطس 2017

حكاية أقدم ترزي في الجمالية

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت - شروق غنيم ودعاء الفولي:
تصوير - محمود بكار:

في عام 1942، لم تكن أزقّة منطقة الجمالية بالقاهرة القديمة، تعرف الخياطة، قبل أن يصل إليها شاب من محافظة المنوفية، لا يحتكم إلا على قليل من الأموال، لكنه أحبّ المقص، جذبه تعانق الخيوط لتصنع ثوبًا جديدًا، فاشترى محلاً صغيرًا في المنطقة العتيقة، وصار دُكّان "القاضي"، أشهر من "نار على العلم".

لم يكن الابن سمير القاضي قد وُلد بعد "طلعت على الدنيا لقيت أبويا شغال ترزي والناس عارفاه". ظل محل الأب في نفس المكان، قبل أن يغلقه ويفتتح آخر عام 1960 بنفس المنطقة، وداخله تربّى سمير صاحب السبعين عامًا، حتى صار مالكه الآن بمشاركة أخيه الأصغر نبيل.

كان شارع الضبابية القريب من بوابة الفتوح هادئًا. سمته يتشابه مع مبانيه القديمة. قليلاً بالداخل قبع محل صغير له جانبين، لا تُجاوز مساحته الثلاثة أمتار، له بابان. أحدهما مفتوح على مصراعيه، فيما فقد الآخر جزء من واجهته بفعل الزمن.

ترزي 1

جلس سمير القاضي مُنكبّا على قطعة قماش بيضاء. يُقلبها يمينًا ويسارًا بخفة. يفردها أسفل ماكينة الخياطة. يطوي أجزاءً منها، فيما يُمرر يديه على ما لديه من البضاعة. يُعاملها برفق. لا تزال يداه حريريتين. لا يستطيع تحريك جسده بحرية، إذ يكتظ المكان بالقصاصات، الخيوط، مكتب متهالك، عدة مقاعد خشبية، جوّالات خالية، قفص خُبز يستند للحائط، وتلفزيون صغير.

"أنا مفلحتش في التعليم فأبويا قرر ياخدني معاه المحل اشتغل".. تدرّج سمير في المهنة مثل السلم التعليمي، في البداية يذهب إلى المحل "أكنسه، أرش مية، أقضي مشاوير عند المكوجي أو أركّب زراير"، وبعد مرور أكثر من عشر سنوات أخرى تمكن من "تفصيل" أول قطعة ملابس بيديه.

في تلك الفترة كان المحل يصنع كل شيء؛ جلابيب، بيجامات، قمصان وغيرها "كان بيجيلنا ناس من كل مصر يعملوا عندنا الشغل".

مرّ محل سمير القاضي بفترات صعود وهبوط كأي تجارة أخرى "بس أكتر فترة اشتغلنا فيها كانت من 63 لـ65". يذكر سمير تلك الفترة جيدًا "كان فيه معلمين كتير في الجمالية وبيعملوا جلاليبهم عندنا". حينها كان ابن صاحب المحل قد اندمج مع ماكينة الخياطة "كنت أنا وأبويا بس اللي شغالين.. كانت تمر علينا أيام نفتح المحل 20 ساعة".

ترزي 2

في الستينات كانت "تسعيرة" محال آل القاضي تناسب الفترة، فبلغ سعر حياكة الجلباب جنيهين ونصف، بينما يصل حاليًا للسبعين. يتذكر سمير أول زيادة شهدها زبائنه "كانت نص جنيه". وفي كل مرة كان الارتفاع نتيجة للأحوال الاقتصادية "دلوقتي كيلو اللحمة بـ140 جنيه، فطبيعي يحصل زيادة كدة".

ظل الترزي الشهير يتطور مع السنين. استخدم الابن والأب مُعدّات جديدة كل فترة، إلا المقص الذي وضعه سمير على يمينه، إذ ظل معه منذ عام 1960. يُعامل الترزي المقص بإكبار شديد، لا تعنيه ألوانه الصدئة، له أسبابه الوجيهة "دة كان ألماني قطع غياره مبقتش موجودة دلوقتي.. لو جبت واحد جديد مش هيستحمل اللي استحمله". ذاك المقص عايش جميع أنواع الأقمشة، التي ينتقيها الزبائن على اختلاف مستوياتهم "كل واحد وشوقه.. كان بيجيلنا من الغفير لحد أشهر نجوم السيما".

ترزي 3

عبد الوارث عسر، محمود إسماعيل وغيرهم "كانوا زباين المحل عندنا". اعتاد سمير رؤيتهم وهو شاب، غير أن الأمر لم يكن فرديًا، ففي مطلع الألفية صُنعت ملابس مسلسل الليل وآخره في دكانهم، كما خرجت من بين يديه أزياء فرقة قدّمت احتفالية السادس من أكتوبر "وكل هدوم الرجالة في مسلسل ريا وسكينة بتاع عبلة كامل إحنا اللي عاملينها". في تلك اللحظات كانت تتكدّس الأقمشة وضغط الطلبات داخل المكان العتيق، فلم يكن من الرجل السبعيني إلا رفع ساعات العمل.

اعتاد القاضي على عدم "صّد الزبون"، حتى إذا أتاه بعد انتهاء موعد عمله "ده رزق ومادام معايا إمكانيات بعمله". أو في أحيان أخرى، كان يلجأ القاضي إلى العمل على ملابس المسلسلات والعروض فقط دون غيرها حتى يلتزم بموعد التسليم "هو القطاع الخاص كدة عرض وطلب".

ترزي 4

في دُكانه الصغير؛ استقبل القاضي تقلبات السياسة، تعاقبت الأحداث، يتذكر كيف تأثر أصحاب المحال في خان الخليلي جراء النكسة عام 1967 "في منهم اللي بقى يبيع طعمية"، فيما يلوح نصر 1973 في ذاكرته كأنه الأمس.

كان وقتها يعمل آل القاضي في الدكان حتى يحين موعد السحور الرمضاني، وبينما تنساب الأقمشة بين يديه، فجأة انقطع بث القرآن الكريم من الراديو، وانسدل بيان النصر.

حينها كان ابن الجمالية مُحتفظًا بغصة النكسة، وما أذيع قبلها من أنباء تُبشر بالنصر على عكس ما كان يدور على أرض المعركة، لذا لم يستوعب بيان 73 "لحد لما شوفت بعيني تاني يوم في التلفزيون".

ترزي 5

ذلك الحدث الجلل لم يكن الوحيد، إذ يذكر مرور تظاهرات ثورة يناير قريبًا من دُكانه "ولا كنا نعرف إنها ثورة"، ثم حالة الكساد التي طغت على محال الجمالية القديمة كلها، فيما أنقذه قليلًا اسم المحل وشهرته.

رغم ما بلغه القاضي في المهنة، لا يعتبر نفسه "أسطى"، مازال يتعلم دروب مختلفة داخل المهنة، ويطور من مهاراته وأدواته "الصنايعي مننا بيفضل يتعلم لحد ما يموت".

لم يخرج من الجيل الجديد لآل القاضي من يعمل بالحياكة، سلك أبناء سمير طريقًا مختلفًا "ربنا جبر بخاطرهم ونجحوا في التعليم"، فتخرج الابن الأكبر في كلية الهندسة، والأوسط في معهد فني، والثالث ضابطًا بالجيش.

ترزي 6

من مدينة العبور يأتي سمير يوميًا، يعتريه التعب "بس المحل لازم يفضل مفتوح". قلل ساعات عمله "مبقتش أشتغل غير من 10 ل3"، لم يفكر في أخذ إجازة "هسيب نبيل أخويا لوحده؟".. هكذا يسأل نفسه دائمًا. لم يعد المحل يغطي جميع نفقاته، لكن الأخوان تأقلما مع ذلك "إن مكنش انهاردة بيكسب بكرة الوضع هيبقى أفضل.. المهم إننا منقفلش محل أبونا".

فيديو قد يعجبك: