في حادث المنيا: حكاية عمال المحّبة.. من دّق الأجراس إلى الشهادة
كتبت - شروق غنيم ومها صلاح الدين:
تصوير- روجيه أنيس:
ليلة صيفية دافئة، تلقى فيها "لمعي وعياد"، ابناء قرية بني جرنوس بالمنيا، نداء مُحبّب من الأب بولو، الراهب في "دير الأنبا صموئيل"، ليعلنوا الخلوة والخدمة بين أروقة الدير، فعلى مدار سنوات يعمل الصديقان في صناعة الأجراس بورشة المكان المُقدّس، قبل أن يلقوا حتفهم وسط 29 قتيلًا و25 مُصابًا، في آخر مرة بالطريق إليه.
منذ حوالي 15 عامًا؛ بدأ عمل عيّاد حبيب في الدير، يذهب بشكل دوري إلى الورشة، أصبح بفِعل الخِبرة والزمن، أشبه بـ"ريّس العُمال"، يصطحب نُخبة من أمهرهم، على سيارته الخاصة ربع النقل التي يقودها، ويذهب لمهمة عمل في رحاب المكان المقدس، لمدة ثلاثة أيام.
فيما اعتاد لمعي مرافقة صديقه منذ خمس سنوات، رغم انشغاله بعمله كفلاح وتاجرًا للثوم، لكن "لما يجيله الندا من الدير، ميتأخرش على بركته أبدًا"، يتذكر ابنه الأكبر كيرلس حالة الفرحة التي انتابت والده مساء الخميس الماضي، وهو يبلغه عن شده للرحال إلى الدير مع 6 رفاق، بالرغم من علمه أن نجله الأصغر سينهي خدمته العسكرية ويعود إلى المنزل في اليوم التالي.
لم ينتظر "لمعي" الموعد المعتاد للخروج في صباح اليوم التالي، ففي العادة كانوا يخرجون في الثامنة صباحًا، إلا أنه هذه المرة استيقظ باكرًا، وأيقظ رفيقه عياد في السادسة صباحًا، كي يتمكنوا تناول الإفطار مع الأب "بولو" في رحاب الدير، وهو ما جعل الريبة تتدفق نحو قلب الابن كيرلس.
انطلق عياد بسيارته ربع النقل، نحو الدير بصحبة اثنين من ابنائه ماركو ومينا، وقبل اقتراب صاحب الـ47 عامًا من مّدق الدير، كانت عربته مُحمّلة بـ8 عُمال آخرين، لكن بوصولهم إلى منتصف مدق الدير، فتح مسلحون النيران عليهم، ولم ينجُ سوى الصغيرين، مُحمّلين بذاكرة مرتعدة من تفاصيل الحادث.
عند منتصف المدّق؛ غمر الغبار عربة عياد، وفق رواية ماركو لعمه وحيد "المكان ده تحديدًا في طلعة، فاللي بيكون جوّة عربية مبيشوفش حاجة إلا لما ينزل من الحتة دي". وبعد أن اجتاز الرجل الأربعيني تلك "الطلعة"، تسّمر في مكانه من هول ما رآه. أربع عربات سوداء "دفع رُباعي"، ومسلحون يصطفون أمام أتوبيس، أجساد مُلقاة على وجهها مثقوبة بالرصاص، والدماء تروي الرمال بغزارة.
لم تمر ثوان؛ وجد عياد في وجهه أحد المسلحين، يسأله عن بطاقته القومية، بارتباك أخرجها له، ألقى المسلح نظره على خانة "الديانة"، ثم طلب من عياد أن يُردد الشهادة "لكن أخويا اتمسّك بعقيدته، فصفوه"، تلقى 4 رصاصات "في صدره، وورا ودنه، ومستكفوش بكدة، ضربوا رجليه الاتنين".
ثوانٍ أخرى مرت كالدهر على باقي العمال، الذين تلقوا رصاصات في أماكن مختلفة من أجسادهم، وأُلقي بهم في الصحراء، وحين جاء الدور على ماركو ومينا ابناء عياد "واحد حط البندقية على دماغ ماركو، لكن واحد تاني قاله سيب دول".
بعد فرار المسلحين؛ لم يجد ماركو ابن الـ14 عامًا بُدًا من استقلال سيارة والده، للخروج بها من المنطقة منقطعة الشبكة، حتى يستغيث بعائلته، وبعد حوالي 10 دقائق، بينما كان وحيد عياد غارقًا في النوم، استيقظ على مكالمة ابن شقيقه "إلحقني يا عمي، ضربوا أبوي بالنار"، وانقطع الاتصال.
هرول الرجل الأربعيني للحاق بأخيه، ومعرفة ما حدث له "مكنتش أعرف إنها حادثة إرهابية لحد ما روحت المكان، وحكالي ماركو ومينا"، وحينما وصل إلى مسرح الحادث في العاشرة إلا ربع صباحًا "لقيت أخويا على الأرض لسة فيه النفس، لكن الباقي ميتين"، فأسرع به على مستشفى العدوة، لكن "لما وصلنا، كان طلع لربنا".
عند المدق، كان وحيد أول من يصل، وجد عربات متراصة لأصحاب الزيارة "2 ميكروباص، أتوبيس، عربية 2 كابينة"، عرف فيما بعد أن كل واحدة كانت تحمل أصحاب مناطق مختلفة في المنيا، من دير جرنوس، الفشن، بني مزار، أبو قرقاص، والشيخ زايد "5 أماكن اتنّكد عليهم، وهيغرق أهاليهم في الحزن للأبد".
لا ينسى وحيد أنه عندما اقترب من المدّق، وجد سيارتين تابعة للشرطة قبل مكان الحادث بـ5 كيلو مترًا، لكنها وقفت في مكانها ولم تتحرك إلا بعد فترة، في لحظة خروجه من المكان محتضنًا جسد أخيه "مرضيتش أكلمهم، لإن كان كل همي أسعف أخويا، لكن إزاي مكان 30 كيلو متر مفيهوش نقطة حراسة واحدة؟.. كان نفسي اسألهم لغاية إمتى هيفضل الإرهاب ده؟".
في نفس التوقيت تقريبًا؛ أيقظت الوالدة كيرلس "قوم روح مع عمك، بيقولوا في ناس اتضربوا بالنار في الصحراوي"، لم يكن يعلم "كيرلس" إلى أين يذهب، فتارة يقال إن الضحايا تم نقلهم إلى المشافي، وتارة يقال إنهم مازالوا في مسرح الحادث، ما دفعه يتأخر لأكثر من ساعة ونصف حتى وصل إلى بداية المدق الجبلي، الذي ينتهي بمقر الدير.
في بداية المدق، حاول أفراد الأمن اعتراض سيارة كيرلس وعمه، إلا أنهم أصروا على استكمال السير، حتى قابلتهم سيارة عائدة، يقول مستقليها: "ارجعوا.. ودوهم المستشفيات".
"عرفت إن أبويا في مستشفى العدوة" اتجه كيرلس نحو مستشفى العدوة مسرعًا، في حالة هستيرية يبحث عن والده، ووسط اعتراضات الجميع تمكن الابن من دخول المشرحة، التي كانت أغلبها ثلاجات لا تعمل، وفقا لقوله، ليجد والده في أول ثلاجة استطاع فتحها، قبل أن يدفعه الجميع إلى الخارج مرة أخرى.
من الحادية عشر صباحًا حتى الخامسة مساء، انتظر كيرلس وأسر الضحايا خروج الجثامين، حتى تمكن من اصطحاب جثته لإتمام مراسم الدفن، بقريته "دير جرنوس".
"فرحان إن الناس دي مخافتش من الموت" هكذا ربط الله على قلب كيرلس، بفخره بوالده ورفاقه الذين لم يخضعوا لتهديدات الجناة، ومن ناحية أخرى خفت وطأة حزنه حينما علم مفارقة القدر، بلقاء أبيه بشقيقه الأصغر، على الطريق قبل الحادث بدقائق.
فيديو قد يعجبك: