"مصراوي" في قرية "المنشأة الكبرى" .. هنا عاش "أبوربيع المهاجر" الداعشي المقتول في ليبيا
كتبت – نانيس البيلي:
بعيدا عن القاهرة بـ 400 كيلومتر بقرية "المنشأة الكبرى" في أسيوط، كان يعيش محمود كامل صديق ربيعي، الشهير بين أقرانه المنضمين لداعش بـ "أبوربيع المهاجر" الذي قتله الجيش الليبي قبل أيام، في منطقة ساونو شرق مدينة أجدابيا بعد فراره من مدينة بنغازي.
"مصراوي" انتقل إلى قريتي "المنشأة الكبرى" و"عرب الجهمة" بأسيوط، اللتين تحملان، آخر مفاتيح فك لغز "أبوربيع المهاجر" الذى كان مصنفا باعتباره أحد قيادات التنظيم الإرهابي الأخطر بليبيا. في إحداهما يقع منزل عائلته، وفي الأخرى تتوارى زوجته عن الغرباء بمنزل أسرة والدتها.
يخفون خبر مقتله عن نساء الأسرة.. وأهالي قريته يقولون إن داعش قتله عندما قرر الابتعاد عن التنظيم
كانت البداية في قرية "المنشأة الكبرى"، حيث يتواجد منزل أسرة "محمود ربيعي"، الذي غادرها قبل 10 سنوات متوجهًا إلى ليبيا بحثًا عن الرزق، شأنه شأن معظم شباب القرية. بحسب الأهالي.
تتكون منازل القرية من طابق أو ثلاثة على الأكثر، وتجمع بين منازل شديدة الفقر ومنازل توحي بالثراء الكبير، ويغلب على ساكنيها الطابع البدوي.
يقع المنزل الذى شهد طفولة "أبوربيع المهاجر" بالقرب من مقر "الوحدة الصحية بالمنشأة الكبرى"، تميزه بوابة حديدية سوداء، يراقب الأهالي بريبة من يقترب منها.
النظرات والهمهمات توحي بشيء لافت ميز البيت وساكنيه، العيون تومئ بالابتعاد عن المنزل، يقطع السكون فتح البوابة الموصدة، ليخرج منها طفل صغير، يحدَق في وجهى قليلاً فتظاهرت بتعديل ثيابي، وانصرفت، وخرج الصغير موصداً البوابة مرة أخرى.
على بعد أمتار قليلة من منزل "محمود"، يجلس شاب لا يتجاوز عمره 20 سنة، على كرسي بلاستيكي أمام محله المخصص لبيع "أعلاف" الطيور، يراقب حركة المارة، يقول إن "محمود" كان شخصا اجتماعيا، يلقي السلام على الجميع، ويمازحهم، مرتديًا الجلباب دائمًا كأهل القرية، قبل أن يتغير قليلاً في آخر إجازاته، التي لا يتذكر موعدها تحديداً.
"المهاجر" يعمل في ليبيا منذ 10 سنوات ولم يزر عائلته سوى 4 مرات..وأحواله تغيرت في السنوات الأخيرة
ويضيف الشاب أن "محمود" تحول إلى شخص غير اجتماعي، وأصبح دائم التردد مع أصدقائه إلى المسجد القريب من منزله لأداء الصلاة.
داخل محل بقالة صغير، مجاور لمنزل "محمود" المتهم بالانضمام لداعش، يقف شاب ثلاثيني منهمكًا في ترتيب بضاعته، يقول بتوجس "الموضوع ده الحريم ميعرفهوش"، مشيراً إلى أن شقيق "محمود" الأكبر "مصطفى" ورجال أسرته هم فقط من يعرفون بخبر مقتله في ليبيا، وأنهم أخفوا الأمر عن والدته وشقيقاته، ويضيف إن هناك شائعات تتواتر داخل القرية بوفاته في ليبيا وأن معظم الأهالي لا يعرفون تفاصيل حول موته.
رجال طاعنين في السن، يجلسون على "بسطة" منخفضة أمام منزل بأطراف الشارع حيث تقطن عائلة الشاب المتهم بالانتماء لداعش. بمجرد سؤالهم عن القصة، قاطعني أحدهم، قائلاً بنبرة حادة "منعرفش روحي هناك عند أهله هتعرفي اللي عاوزه تعرفيه"، ويضيف آخر لقطع الحديث في الموضوع تمامًا "إحنا ملناش صالح بحاجة".
بالاستفسار عن حديث الأهالي حول مقتل "محمود"، يهم أحدهم بالحديث، قبل أن يزجره الآخر بنظرة ويسحب أطراف جلبابه، ليتوقف فمه، ويرمقنا بنظرة حادة تطالبنا بالانصراف فوراً.
حماته: "عمره ما دخل مركز ولا له في المشاكل، هو اللي يربي دقنه تبقى بلوة"
يقول مصدر مسؤول بالوحدة المحلية لقرية "المنشأة الكبرى" إن خبر وفاة أو مقتل "محمود كامل صديقي" انتشر داخل القرية قبل 4 أيام وأن أهل بيته آخر من علموا منذ يومين.
تحدث المصدر لـ"مصراوي"، مشترطا عدم الكشف عن هويته بسبب تعليمات مشددة من الأمن الوطني ووزارة الداخلية، مشيراً إلى أن معظم أهالي القرية لا يعلمون أي تفاصيل حول انضمامه إلى تنظيم "داعش"، وأن هناك من يقولون "واحد مات في ليبيا من بلدنا" ولا يكترثون للأمر، في حين تتردد أقاويل أخرى بأنه انضم إلى "داعش" للحصول على أموال يرسلها إلى أهله بعد أن ضاق الحال به في ليبيا وفقد عمله، وأنه عندما أبدى رغبته في الانشقاق عن التنظيم والخروج منه قاموا بتصفيته.
أحد أهالي القرية، تحدث عن الشاب، قائلاً إن لديه 2 أشقاء ذكور وشقيقتين، وأنه كان يصلي، لكنه لم يُعرف عنه الالتزام الديني بشكل كبير، وأن هناك أقاويل ترددت بغضب زوجته منه لطول فترة غيابه تلك المرة التي زادت على عامين ونصف العام.
داخل أحد المنازل بأطراف القرية، استقبلني مالكه، وبعد انتظار طويل وافق على التحدث إلينا، قائلاً إن "محمود ربيعي" يعمل في ليبيا منذ نحو 10 سنوات، وبدأ يصلي منذ فترة قريبة، وآخر زياراته للقرية كانت قبل 4 سنوات، وقضى نحو شهرين باع خلالهما قطعة أرض زراعية لعمه، وعندما سأله عن طبيعة عمله بليبيا، أجاب أنه يعمل فى مصنع.
ويضيف المصدر، مشدداً على عدم ذكر اسمه، أن شقيق الشاب يدعى "مصطفى" أخبره بأنه يقسم عائد إيجار العمارة السكنية التي يمتلكونها بالقاهرة، ويرسل نصيب "محمود" إلى زوجته" في منزل والدتها في "عرب الجهمة".
زوجته: كان يتصل بي مرة شهريا.. وإذا احتجت مالا أرسل له رسالة على المحمول
بعد قرابة ساعة ونصف من وجودي داخل المنزل، حضر إلى البيت عم زوجة "محمود ربيعي" ويدعى "الحاج محمود"، وطلب التحدث بنفسه معى، رافضًا في البداية السماح لى بالانتقال إلى قرية "عرب الجهمة" حيث توجد زوجة الشاب للتحدث معها.
وقال الرجل إن زوج ابنة شقيقه سافر ليبيا 4 مرات، منهما مرة واحدة قبل زواجه، وفي أول إجازة شاهد زوجته "رشا" وتقدم لخطبتها وتزوج خلال شهر واحد، وعند سؤاله عن طبيعة عمله في ليبيا وقتها أجاب قائلاً "معرفش دي داخليات بينهم" إحنا سألنا عنه وعن عيلته ووافقنا عليه "المهم شغال في ليبيا وخلاص".
وحول علمهم بمقتل نسيبهم في ليبيا، قال "سمعنا إن هو ممسوك مش أكثر من كده"، وحاول "الحاج محمود" التشكيك في صحة الفيديو المنتشر عن تصفية الجيش الليبي لـ"محمود صديقي" وأنه أحد عناصر "داعش"، مرجحًا أن يكون قد فقد جواز سفره أو سرق منه وقام مصور الفيديو باستغلاله، وأضاف أنهم لم يخبروا زوجته "رشا" بوفاته ولكن ما قالوه لها إن صوره منتشرة عبر الانترنت وأنه يمكن أن يكون تم سجنه بليبيا.
بشق الأنفس، وبعد محاولات مضنية لإقناع الرجل الستيني بالسماح لنا بالحديث مع ابنة شقيقه زوجة "محمود ربيعي" داخل منزل أسرة والدتها بـ"عرب الجهمة"، وبعد تعهدى بعدم الضغط عليها، اصطحبنى إلى القرية التي تبعد 10 دقائق بالسيارة عن "المنشأة".
على الجانب الأيمن من قرية "المنشأة" يقع دير "المحرق" الشهير المرتبط برحلة العائلة المقدسة ويمتد على أكثر من 200 فدان، بينما تقبع على الجانب الأيسر مقابر الأقباط الخاصة بمركز القوصية.
منازل من طابق واحد، أغلبها مُشيّد بالطوب الحجري، ما جعل اللون الأبيض يغلب على القرية. يتوسط منزل أهل الزوجة القرية، وأمام الشارع يقف خالها "الحاج نجاح". اصطحبنى الرجلان إلى الشارع الضيق.
أمام منزل أهل الزوجة "رشا"، توقف عدد من النساء والفتيات يهمهمن، عيونهن رابضة على بوابة المنزل كدلالة على حدث. تشخص أبصارهن تجاه الغريب القادم برفقة الخال والعم.
أرضيات المنزل مفروشة بـ "الكليم" و"الحصير" المتواضع، الجدران ملونة بالأزرق السماوي. استقبلتني سيدة خمسينية تحدق بغضب في كاميرا الموبايل. تقطع النظرة الغاضبة حديث الخال نجاح " اتفضلي رشا مرته في الأوضة اللي ع الشمال".
راقتنى السيدة الغاضبة داخل الغرفة، حيث جلست "رشا" على سرير متواضع، وأسندت رأسها إلى الجدار، ملتحفة ببطانية تغطيها كاملة.
نبهت السيدة الخمسينية المتواجدين بالغرفة إلى كاميرا الموبايل، فقالت "رشا" بنبرة صارمة "بلاش صور خالص".
رافقنى عدد من أفراد المنزل داخل الغرفة، منهم والدة "رشا"، تقول بأسى "حسبنا الله ونعم الوكيل، محمود مش وش كده والله، كل اللي بيتقال ده مش مصدقينه خالص"، وتضيف "عمره ما دخل مركز ولا له في المشاكل، هو اللي يربي دقنه تبقى بلوة".
توجست الزوجة "رشا" من الحديث، نظرت إلى عمها ووالدتها كأنها تنتظر الإذن بالكلام، قبل أن تقول "أنا أول مرة أسمع عنه الحاجات الوحشة دي"، وبشأن خبر مقتله، قالت "عرفت من الناس اللي جاية تعزي، أنا مبشغلش قنوات بشغل قرآن بس".
تقول "رشا" إن زوجها "محمود" سافر إلى ليبيا مرتين منذ زواجهما، الأولى بعد إنجاب ابنتهما "هاجر" وكانت وقتها حبلى في طفلهما الثاني "مصعب"، وعاد عندما كان عمر الطفل 7 أشهر، وسافر بعدها بشهرين في منتصف 2014، وهي المرة الأخيرة التي رأته فيها، وكان آخر اتصال معه منذ شهر.
تتابع الزوجة التي اغرورقت عينيها بالدموع "لو هو مع داعش كان بان عليه، ده حرام ده ظلم".
وتضيف أن "محمود" كان يتصل بها تليفونيًا مرة واحدة كل شهر لضعف شبكة الهواتف في ليبيا بعد الأحداث الدموية هناك، وأنها عند حاجتها إلى أموال كانت ترسل له رسالة نصية عبر الهاتف، وتوضح أنه كان يعود إلى أسيوط كل عام أو عام ونصف على الأكثر لرؤية زوجته وأطفاله، بخلاف المرة الأخيرة، حيث طالت المدة لأكثر من عامين ونصف.
يقاطع الحديث "الحاج محمود" قائلا بنبرة مرتفعة تومئ بالدفاع عن زوج ابنته "كان شخص طبيعي مفيش عليه طباع تشدد"، ويشير إلى أنه ترك الحرية لزوجته بترك منزلهما بقرية "المنشأة الكبرى" والإقامة في مسكن أهلها بـ"عرب الجهمة"، "عاوزة تقعدي عند أهلك أقعدي عاوزة تروحي بيتنا براحتك، طالما أخوالك أو حد من أهلك بيوصلك براحتك"، تقول والدتها.
وحول عمل زوجها في ليبيا، تقول "رشا": "معرفش، هو مكنش بيشغل بالي بالحاجات دي، اللي كنت أعرفه إنه بيشتغل في مزرعة عند جنايني"، وتشير إلى أنه كان يرسل لها ما بين 500 و 600 جنيه كل شهرين مع بعض الأفراد المسافرين والقادمين من ليبيا.
"كان طيب أوي، شفتي العيل الصغير محمود كان زيه" تقول خالة "رشا"، وتشير إلى أنه كان يعطف على المريض والفقير.
تضيف "رشا" أن زوجها أحيانًا كان يفكر في ترك العمل في ليبيا والبحث عن عمل بمصر للتواجد بالقرب من أطفاله ويقول لها "يسهل ربنا"، لكنه سريعًا ما يعدل عن القرار لعدم توافر فرص للعمل قائلاً "أحسن من مفيش".
تقول إن شبابا كثيرا تقدم لخطبتها قبل "محمود" ولكنها رفضتهم جميعهم واختارته لتدينه وأخلاقه، وتضيف والدتها "إحنا ارتحناله".
يؤكد عدد من أصدقاء شقيق "أبوربيع المهاجر"، أن "محمود" بدأ ينعزل عن أهالي القرية منذ 4 سنوات خلال أجازته الأخيرة عندما أطلق لحيته، وأنه أصبح غير اجتماعي لا يختلط إلا بأصدقاء محدودين.
وأَضافوا أنه يمتلك قطعة أرض خاصة به، بجانب عمارة كبرى في القاهرة ملك له ولأشقائه، اشتروها بعد بيعهم قطعة أرض بقريتهم قالوا إنهم ورثوها عن والدهم الذي توفي منذ سنوات قليلة.
فيديو قد يعجبك: