''مسجد الإيمان''.. مشاهد من الداخل
كتبت - عزة جرجس:
الطريق إلى مسجد ''الإيمان'' الكائن بشارع مكرم عبيد، كان خاليا من السيارات، فمرورا بطريق النصر ومن بعده شارع الطيران، توجد فقط عربات أمن محطمة يكسوها السواد من آثار حريق بدا أنه استمر لساعات طويله، الهواء تعبق به رائحة غاز مسيل للدموع نفاذة، المحال مغلقة، والمذياع يتحدث عن إلغاء الدنمارك لاتفاقيات تعاون بينها وبين مصر على خلفية اشتباكات الأربعاء الدامي التي أودت بحياة المئات من أنصار الدكتور محمد مرسي، ويسرد قارئ النشرة أنباء قيام دول غربية باستدعاء سفراء مصر لديها لإدانة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة.
قوائم الضحايا
دقائق ويقف ''التاكسي'' أمام مسجد الإيمان، الذي يحوي بين جوانبه عشرات الجثامين لضحايا وقعوا في فض الاعتصام وما تبعه من اشتباكات. الأهالي يفترشون الأرض أمام المسجد، بعضهم سيده الصمت، وبعضهم يكسوه الغضب والبعض الآخر يعبث بلحيته شارد الذهن. عربة متفحمة أمام المسجد، قيل أنها كانت لشرطي كان يمر من هناك فاعتدى عليه أهالي الضحايا وأشعلوا النيران في سيارته وتتدخل بعد ذلك أهالي المنطقة وأطلقوا سراحه من بين أيديهم.
لافتات معلقة على جدران المسجد عليها أسماء الشهداء، معظمهم من الأقاليم، خاصة الشرقية، مسقط رأس ''مرسي'' الذي تعلو بوستراته قوائم أسمائهم، صور مرسي المكتوب عليها ''مرسي رئيسي'' متراصة على الحائط، يبتسم هو في الصورة إلى جوار أسماء من ضحوا بحياتهم من أجل عودته.
لادخول إلا بالحجاب
الدخول إلى المسجد لم يكن سهلا، كان لابد من اجتياز الأسر المنتظرة أمام الأبواب للدخول والتعرف على ذويها، مكبر الصوت بالمسجد ينادي بأسماء الشهداء، أحدهم يرفع يده ويقول أنه قريب هذا الشهيد الذي كان يُنادى باسمه عبر المكبر، ويطلب بإفساح الطريق ليدخل ويحمله ويذهب، على باب المسجد يستوقفني أحد حراس الأبواب ويقول '' لا دخول إلا بالحجاب'' ذهبت أنا وإحدى الصحفيات التقيتها هناك لأحد المحال المجاورة لشراء غطاء رأس، وعندما عدنا للدخول، استوقفني أحدهم لينبهني بأن أغطي شعري كاملة، ابتسمت وفعلت.
بمجرد اجتياز مدخل المسجد تظهر بوضوح العشرات من الجثث متراصة ملتحفة بغطاء أبيض عليه بقع دماء ذات لون أحمر قاني، رائحة معطرات مختلطة برائحة جثث قاربت على التعفن من طول انتظار تصاريح الدفن تملأ المكان.
مرة أخرى ينبهني بحدة الشخص، الذي طلب مني تغطية رأسي، بأنه لازالت هناك بعض الشعيرات تطل من الحجاب، قمت بتغطيتها دون أن التفت له، فما كان منه إلا أن استوقفني ثالثة متوعدا ''غطي شعرك كله'' فأعطتني زميلتي الصحفية ''دبوس'' لاتمكن من إحكام الحجاب على رأسي قائلة ''سايب كل الشهدا دول ومركز في شعرك''.
''سأقتص لأبني منك''
تمادينا أكثر في طرقات المسجد، على أحد جوانبه تجلس سيدة ملتحفة بالسواد - يبدو أنها في عقدها الخامس - بين جثتين، تبكي في صمت، بمجرد الاقتراب منها لاحت بأيديها رافضة الحديث، ثم غيرت رأيها بمجرد أن جلست قبالها وسألتها أيا من الجثتين قريبها فأشارت باكية إلى الراقد عن يسارها، وقالت ''ده عمر ابني باشمهندس قد الدنيا، عريس عنده 23 سنة''.
وتابعت: ''ابني معتصم في رابعة من 45 يوم، وشقيقه يعمل طبيب بالمستشفى الميداني، أمس ضربته الشرطة بالرصاص في جنبه ومات على إيد أخوه وهو بيسعفه''. أم عمر قالت أنها تشعر بالفخر لأن ابنها كان معتصما برابعة، لافتة إلى أنه صاحب حق وصاحب قضية، وحقه لن يضيع.
آثرت قبل أن تكف عن الكلام أن توجه رسالة للفريق، عبدالفتاح السيسي، وزير الدفاع، قائلة :'' الله سيأخذ حق ابني منك، أنت دمرت مصر خلاص، كان ممكن يكون فيه مصالحة، بس بعد الدم أنت قاتل وسأقتص لابني منك'' طلبت مني ألا أحذف حرفا من رسالتها هذه، كاشفة في نفس الوقت عن الجثة الأخرى التي بجانبها وهي لطفل متفحم قائلة : ''شايفة حرقوا أولادنا أزاي.. ربنا ينتقم منهم''.
للتصوير فقط
في المسجد يسير فتى حاملا بين يديه رأسا متفحمة، مناديا على وسائل الإعلام المتواجدة، كانت أغلبها أجنبية، لتصويرها ''شايف يا استاذ.. صوري يا أستاذة''، هكذا كان يردد، مشيرا إلى أن الرأس لأحد معتصمي رابعة، لم يذكر من أين أتى بها وكيف وجدها.
على الجانب الآخر، يجلس رشاد، شاب عشريني، بجانب جثة عمه مستلقيا على أحد عمدان ، بدا على وجهه الإعياء، قال لنا أنه يجلس بجوار الجثمان لأكثر من 12 ساعة، منتظرا تقرير الطبيب الشرعي لدفن عمه، مضيفا :'' أنا مش إخوان ولا ليا في السياسة، بس مش هسيب حق عمي''. رشاد رأى أن الدم أصبح قضيته، وأنه لن يتنازل عن حقه.
وأوضح أن مستشفى التأمين الصحي بمدينة نصر، رفض أن يعطيه تصريحا يشير إلى قتل عمه بطلق ناري، مسترسلا:'' بيقولوا لو عايز تصريح من غير ما نشرح الجثة هنكتب أنه انتحر، أنا رفضت وهنتظر تقرير الطبيب الشرعي لما يتكتب الحقيقة وهمضي عليها''.
بجانبه يقف محمد، أحد المكلفين بجمع تصاريح الدفن، قال أنهم ينتظرون مندوبين عن وزارة الصحة للكشف عن الجثث وكتابة تقارير الوفاة، مؤكدا أن الأهالي لن يقبلوا أبدا بأن يكتب في التصاريح أن ذويهم ماتوا منتحرين: ''معظم الجثث هنا ماتت بطلقات نار حي، والبعض الآخر مات متفحما''. محمد أشار إلى أن الشرطة لا تكف عن ملاحقتهم وأن الليلة الماضية شهدت اطلاق نار حي على المسجد بغية حرقة لإخفاء أثار الجريمة.
بطاقات هوية
في نهاية المسجد تجلس ''ضحى'' أحد أعضاء الفريق الإعلامي، وحولها عدد من عائلات الضحايا، يبحثون عن ذويهم وسط بطاقات الهوية التي بحوزتها، كان معها ما يقرب من 40 بطاقة، قالت ''إنها لشهداء جمعها أطباء المستشفى الميداني برابعة''، فيما كان معها أيضا 100 بطاقة أخرى وجوازات سفر لمصابين.
الكل يبحث عن قريبه بين القوائم المعلقة على الجدران المسجد، عيون تنقب في حذر بين البطاقات تتوق لمعرفة أي أخبار عن ذويهم ، وفي ذات الوقت تتمنى ألا تجد اسمائهم بين تلك القوائم ويكونوا أحياء حتى لو محتجزين.
الأقباط حاضرين
حانت ساعت الخروج بعدما اصطف المصليين لصلاة العصر، كان علينا أن ننتبه أن أرجلنا أصبحت مكسوة بالدماء المتناثر على السجاد، خرجنا مسرعين مع تزايد رائحة الجثث، أنباء تتوتر عن قرب وصول الطبيب الشرعي ليعطي تصاريح الدفن، ولكنه لم يصل. في الخارج أعداد أكبر من الناس يرددون هتافات ''إسلامية إسلامية''، ''يسقط سقط حكم العسكر''، ''ارحل يا سيسي مرسي مش رئيسي''.
أمام المسجد قال أحد أصحاب المحال التجارية أن عدد الجثث الذي وصل للمسجد يقرب من 200، نافيا أن تكون الشرطة هاجمتهم أو وحاولت إحراق المسجد ليلا، كما قال أحد المتواجدين بداخل الجامع. أطراف الحديث تتناثر في شارع المسجد بين المئات من المطالبين بالقصاص، عن أن الأقباط كانوا يساعدون الشرطة في فض الاعتصام، أحدهم يرد ''لا تقل هذا لسنا في معركة طائفية''؛ فيرد آخر ''قبضت على واحد مسيحي هناك '' ينهي جملته بقسم الله ليؤكد وجهة نظره.
الرحيل أصبح ملحا الآن أجواء الشحن والغضب بدأت تلوح في الأجواء، ورائحة الموتى التي كانت منتشرة قبل ساعتين، تتلاشى. الكل يعلن أن الجمعة سيكون يوم غضب عارم في أرجاء المحروسة.
فيديو قد يعجبك: