وداعا دمشق
دمشق – (بي بي سي):
دمشق مدينتي التي ترعرعت فيها. مدينة الياسمين، وسوق البزورية الذي يعبق برائحة العطورات، والحميدية سوقها التاريخي المغطى. مدينة نهر بردى وتاريخ يعود الى آلاف السنين.
لم تعد كما هي. اليوم هي مدينة أخرى. قمت بتغطية أحداث الثورة منذ اندلاعها في مارس ٢٠١١. وقلبي يعصف ألماً بما يجري، وانا اراقب مدينتي وهي تتحول أمام عيني.
اعتقدنا جميعاً بأن دمشق معصومة عن العنف. وأن ما يجري في المدن المجاورة لن يطال العاصمة. كم كنا مخطئين. باتت دمشق منطقة ساخنة أخرى، تشهد عنف السلطات ضد المتظاهرين السلميين.
في البداية، استطاع النظام أن يحشد الكثير من المؤيدين خلف قيادة الرئيس بشار الآسد. وشعارات التأييد تنوعت بين ''الأسد للآبد'' و''الله، سوريا، بشار وبس''. ثم بدأت شعارات أخرى بالظهور مثل ''إما الآسد او لا أحد'' لتتطور وتصبح ''الأسد او نحرق البلد''. لكن شعارهم حاليا هو ''سنحرق البلد''.
بالنسبة إلى موالي الأسد، وهم بالعموم من الطائفة العلوية التي ينتمي اليها، يعد بقاء الأسد هو بقاء للطائفة بحد ذاتها. إذ أصبح المجتمع مستقطباً ومنقسماً على ذاته. تفرق الأصدقاء، ونشبت خلافات عائلية. كل في جهة نائية من النزاع في البلاد. كلٌ يحاول جاهدا أن يجد طريقة ما للتكيف مع الحياة في مدينة أوجعتها الحرب.
أن تعود إلى منزلك حياً، أصبحت من رفاهيات الحياة. إذ يدرك سكان المدينة أن الموت قد يداهمهم في أي لحظة. أو أن أحدا ما من محيطهم قد يقتل في إطلاق للنار أو بسبب سقوط قذائف هاون التي أصبحت تنهال كالمطر على دمشق.
في ساحة العباسيين، على تخوم الغوطة الشرقية، يمكنك أن تشهد العملية العسكرية بام عينك. فالملعب الرياضي تحول الى ثكنة عسكرية. هناك في الشارع دبابات وكثير من الجنود.
من هذه الساحة، تمكنت من رؤية الدبابة بأم عيني. لم تكن مركونة هناك، بل في الحقيقة كانت تقصف باتجاه جوبر، ذلك الحي في الطرف الشرقي لدمشق. عائلتي تقطن وراء الدبابة بشارعين فقط. فانتابتني حالة من الذهول والاضطراب، اذ لم اع ما علي ان اشعره في تلك اللحظة. اخذت بالضحك. لم اكن اعلم ان كان ذلك. غضب قد تحول ضحكاً ام هو الاحساس بالعجز بان اخرين يقتلون وأنا لاحول لي ولا قوة. ام انه احساس بالأنانية انني محظوظة باني مازلت أقف خلف الدبابة ومازال أمامي متسع من الوقت كي أبقى على قيد الحياة.
أدركت فجأة بأنني توقفت عن البكاء منذ زمن، وتجمدت أحاسيسي. لكنني أرغب ببكاء كل الموتى، أود استرجاع انسانيتي وروحي، أن أستعيد نبضات قلبي. لا أريد مصالحة الموت، أريد أن أعيش.
ستالينجراد
زرت مدنا عدة أثناء تغطيتي للصراع وشاهدت المظاهرات السلمية في حمص، حيث كان لاعب كرة القدم عبد الباسط الساروت ينشد للبلاد والحرية، والرجال والنساء يرقصون في الشوارع على وقع غنائه.
شاهدت نشطاء مسيحيين وعلويين يزورون ريف دمشق ويقدمون العزاء لعائلات فقدت أطفالها بعدما طالهم رصاص النظام.
تابعت نساء يسعين إلى التغيير السلمي في البلاد ويطرقن باباً بعد باب وحارة بعد حارة ويقدمن دعماً انسانياً ونفسياً لمن دمرت الحرب نفوسهم. لكن أي فعل سلمي مثل رفع لافتة كتب عليها ''أوقفوا القتل، نريد أن نبني وطناً لكل السوريين''، كان كفيلا بتعريض حاملها إلى الاعتقال. فما بالك بمن يحمل السلاح في الخطوط الأمامية ضد قوات النظام.
دوما، ضاحية في ريف دمشق، كانت أول منطقة في الريف تشهد مظاهرات ضد النظام دعماً لمدينة درعا التي تسمى ''مهد الثورة''. كان الحراك هناك سلمياً بالكامل.
ورغم أنها ضاحية محافظة دينيا، فقد شهدت ثورة اجتماعية قبل تلك السياسية. فثارت النساء على القواعد الاجتماعية ووقفن جنباً إلى جنب مع الرجال في الشوارع يطالبن بالحرية. لكن المدينة، اصبحت تشبه مدينة ستالينجراد بمشهد الدمار الذي اعتراها.
وترك الصراع آثاره على المدنيين الذين ظلوا في المدينة، وعندما قابلت طفلاً في الرابعة عشر من عمره، كان قد ترك مدرسته وعمل ممرضا، قال لي بأنه كان سيتحدث بالإنجليزية معي لو أنه استطاع أن يتابع دراسته. وأخبرني بانه يعيش بين الدم والجروح لكنه كان يتسم بالقوة. وبينما كانت طائرة حربية تحوم فوق رؤوسنا، أخبرني أنه لا يهاب الموت. قال: ''على الأقل، أصبحنا نتحدث بحرية اليوم''.
ليست ذات المدينة
ابتكرنا أساليب مختلفة لبقائنا. كنا نطهو كل يوم، ونشرب ونغني ونضحك. كنا نسخر من الموت ونلقى النكات على الحرب والخوف، ننتقد كلاً من السلطة والمعارضة في آن واحد.
لم يمر يوم دون لقاء مع الأصدقاء. كم غريب ما تفعله الحرب بنا. أصبحنا نقدر كل شخص في حياتنا، واقتربنا أكثر من بعضنا بعضا. تعلمنا كيف نتحدث عن مخاوفنا وضعفنا. حتى أننا كنا نسخر منها. ربما هذا ما ساعدنا على الاستمرار. ليس لدينا متسع لدينا للحزن والوهن. لم يكن لدينا خيار آخر سوى النهوض والمضي قدماً.
بعد عام من منعي من مغادرة البلاد واعتقالي عدة مرات، استلمت جواز سفري وسُمح لي بالمغادرة. قمت بوداع آخر صديقة لي في العاصمة.
الوضع في دمشق يزداد سوءاً يوماً بعد يوم. شعور ما دفين في داخل كل منا يدفعنا إلى الوداع، فلا نعلم متى سنلتقي مرة أخرى.
لا أعلم ما الذي سيحل بمدينتي ومن سيبقى في سوريا. غادرت دمشق بقلب جريح وروح محطمة. تركت ذكرياتي وحياتي. كل التفاصيل ما تزال هناك. كل صداقة وكل حكاية.
لا أدري متى سأعود وان كنت سأعود يوماً، فخوفي ان دمشق لن تكون ابداً تلك التي ترعرعت بها.
فيديو قد يعجبك: