مستشفيات غزة تتحول إلى مقابر.. استهداف الأطقم الطبية ونقص الإمدادات
كتبت- سلمى سمير
تصميم غلاف- محمود أحمد
تصميم إنفوجراف- مايكل عادل
ضعيفًا منهكًا جاف الحلق خرج الطبيب طارق دردساوي منذ يومين إلى مقر عمله في مستشفى "الدرة" في قطاع غزة حاملًا هم الوصول سالمًا إلى مقر عمله دون الإصابة بصاروخٍ غادِر يرميه الاحتلال الإسرائيلي من سماء غزة بدلًا من معطف أبيض لا يفارقه مذ التحق بكلية الطب.
"الوضع صعب" بدأ طبيب الأطفال وصف شعوره لمصراوي بهاتين الكلمتين مع شتات أصاب كلماته التي لم تعرف من أين تبدأ الحديث عن طوارق نزلت بشعب غزة الأبية. كان طارق يعمل بمشفى "الدرة" الخارج عن الخدمة 24 ساعة متواصلة منذ عادت الغارات إلى سماء غزة التي يسلك على أرضها طريقًا ليس سهلًا إلى مقر عمله فالعبور من طرق ردمتها الأبنية أصبح دربه الجديد واحتمالية أن يسبقه الصاروخ قبل أن يصل للمشفى هو قدر جائز وقوعه في أي لحظة منذ سبت "طوفان الأقصى".
السبت الماضي شهد مستشفى "الدرة" جريمة نكراء مع قصف محيطه بالقنابل الفسفورية وإنذار موظفيه بالإخلاء الفوري مما أخرجه عن الخدمة ونقل الأطفال المرضى فيه إلى مستشفى "النصر" المجاورة لإسعافهم بالعلاج الفوري في وقت أصبحت المستشفيات أهدافًا مشروعة لاحتلال يُبرر قصفها بأنه صاروخ طائش من المقاومة الفلسطينية.
في اللحظة التي تقارب عقارب الساعة على الثالثة عصرًا تزداد مخاطر التنقل على الطبيب صاحب الـ ٤٣ ربيعًا فكلما أحلك الظلام كلما ترصد الخطر له ذهابا وإيابا إلى المشفى فلا مواصلات تقله هو والمصابين في القطاع المظلم لتصبح سيارات الإسعاف في الوضع الجديد وسيلة تنقل مشتركة تجمع بين الأطباء والجرحى.
عمل دكتور طارق وزملائه في مشفى للأطفال لا يشفع لهم جميعًا للسلامة من المخاطر المترصدة في قطاع غزة، فمخاطر الطرق ليست على الأطباء فقط فحتى المرضى طريقهم إلى دار الدواء أعرج مع تخبط الحالات التي تتطلب علاجًا سريعًا في الطرقات المظلمة حتى تجد باب المشفى.
رغم ظن الجميع استحالة تنفيذ الاحتلال تهديداته واستهداف المستشفيات إلا أن فاجعة مستشفى المعمداني مساء أمس الثلاثاء أثبتت أن الكيان المجرم لا يقف عند قيد أو شرط، "كل الأماكن مستباحة من قبل الاحتلال لا أحد هنا في مأمن" يتحدث دكتور طارق الذي استهدفت صواريخ الاحتلال محيط مشفى الدرة حيث يعمل مرتين أولها بالصواريخ مما أثر على وصول سيارات الإسعاف إلى المشفى، وثانيها إلقاء القنابل الفسفورية مما أخرج المشفى عن العمل في حادثة ليست الأولى مع استهداف صواريخ الاحتلال سيارات الإسعاف والأطقم الطبية بشكل مكثف منذ بداية الأحداث، فالسيارة وإن نجت من القصف تجد الطريق مغلقًا أمامها تنتظر آليات الدفاع المدني حتى تفتحه.
الكهرباء رفاهية
حول مجمع الشفاء أكبر مشافي قطاع غزة تعالت صرخات الناس في الظلام الحالك مع فوح رائحة الدماء في كل مكان هنا جثة غير محددة المعالم وهنا أشلاء متفرقة وهنا مصاب لا يراه من حوله مع انقطاع التيار الكهربائي عن القطاع منذ بداية الحرب.
"الكهرباء بالنسبة لنا رفاهية" يحكي الطبيب النازح من حي الشجاعية بسبب كثرة القصف والذي اقتصرت أولوياته في الوقت الحالي على النجاة فقط بتوفير المأكل والمشرب والآمان قائلًا إن قطاع غزة يتعامل مع الكهرباء في الأوقات العادية كونها احتياج ثانوي لكن لا يمكن اعتبار القطاع الصحي كذلك.
بعد قطع الاحتلال الإسرائيلي التيار الكهربائي عن قطاع غزة عاش القطاع لأيام قليلة على مولدات الطاقة العاملة بالوقود الذي شارف هو الآخر على الانتهاء في أكبر مستشفيات غزة، والذي يعني انتهاءه انقطاع كل أوجه الحياة داخل القطاع ما لم تستأنف الإمدادات مرة أخرى "إذا اتصلت بي بعد 6 ساعات لن أجيب لأن شحن هاتفي قد انتهى" يتحدث الطبيب عن إمكانية فقدانه الاتصال بالعالم الخارجي في أي لحظة بسبب نفاد الكهرباء.
في غزة فقط ترى مشاهد جريح يحتاج العناية المركزة يفترش الأرض بلا سرير يحمله في غزة فقط مشهد الابن يضع قدميه وسادة تحت رأس والده المصاب لعدم وجود ما يحمل رأسه عليه الأمر الذي تسبب في تعالى تحذيرات الأطباء في غزة من نفاد الأسرة وغرف العناية المركزة التي ترتكز حالياً على المولدات العاملة بالوقود للحد الذي فكرت إدارة مستشفى "الدرة" قبل خروجها عن الخدمة في الدمج مع مستشفيات أخرى لتقنين استخدام الوقود والمستلزمات الطبية التي توشك على الانتهاء.
يداهم خطر الموت أطفال مستشفى الدرة بعد خروجهم منها مع احتياج الأطفال للبقاء طوال الـ 24 ساعة تحت أجهزة التنفس الصناعي والتي لن لتصبح متوفرة في الوقت القريب وهي وجميع المضادات الحيوية التي تأتي للقطاع بشكل شهري مع الاستهلاك الكبير لها.
الموت أصبح روتين حياة
ومن "الدرة" إلى مجمع "الشفاء" حيث شهيد مغادر وجريح داخل، يبقى مهند بصفته ممرض داخل المشفى 48 ساعة كاملة لا يغادر إلى منزله في ظل النكبة التي تعيشها غزة، يصف مهند حالة مجمع الشفاء في الفترة الحالية ب"المذرية" مع افتراش المصابين طرقات المشفى بسبب نفاد الأسرة.
من يأتي من قصف لا يمكن أن يكون جرحه هين وقد انهار بناء كاملا فوق رأسه يصف مهند حالة المصابين بالشديدة مع احتياج أغلبهم للمكوث في غرف العناية المركزة لتلقي عناية خاصة لكن كيف يمكن لعدد محدود من الأطباء وكميات تلفظ أنفساها الأخيرة من المسلتزمات الطبية الأساسية أن تسعف آلافا أتوا من تحت الركام، يسرد الفتى العشريني الذي لا يجد سبيلًا إلى كيفية حل ذلك إلا أن يطلب الدعاء لأهل غزة علّ الدعوات ترفع حصارًا فرض وتمطر ماء حبس وتنبت طعامًا قطع.
في الأوقات العادية من يدخل العناية المركزة يندر أحبائه مئة ندر حال خرج واقفًا على قدميه، أما في غزة وفي أكبر مشافي القطاع المحاصر الذي امتلئ سريعًا بآلاف المصابين فالوضع مختلف فمرضى الرعاية لا مكان لهم داخلها إلا أروقة يصفهم المسعفين والممرضين داخلها لحين توافر مكان لهم إما باستشهاد شخص أو عمر جديد يكتب لمن انكب الجدار فوق رأسه.
أغلب المصابين المتوالين إلى المشفى يحتاجون رعاية خاصة وفق الممرض الشاب فأنبوب الأكسجين الذي يساعد في إيصال الهواء لرئتي من انهد عليه بناء كاملًا قد يكون الفاصل فيما إذا كان هذا الشخص سيكمل دوره في تلك الحياة أم انقضى أجله عند هذا الحد، لكن توافر غرف عناية مركزة يعتبر معجزة يطلبها مسعفون يشهدون ارتقاء العشرات بشكل يومي.
يروي مهند تفاصيل يومه في مجمع الشفاء من مشهد يتكرر أمامه كل يوم فهو وزملائه لا يستطيعون إسعاف الجميع ومداوتهم كما ينبغي مع نقص الأكسجين والمستلزمات الطبية الأساسية، فكلما تقتضي الحاجة تصير المفاضلة بين من يستطيع مقارعة الموت لوقت أطول ومن يفصله عن البرزخ لحظات حينها تكون الأولوية له في الحصول نسبة من الأكسجين الذي أوشك على النفاد.
طريق مهند ليس مقتصرًا على إمكانية تحمله النفسي لمشاهد الموت الذي أصبح روتين حياته منذ بدأ القصف، لكن حياته هو شخصيًا ليست في مأمن من صواريخ الاحتلال الإسرائيلي فمحيط المشفى حيث يعمل أصابته قذائف عدوان إسرائيلي استباح حتى المراكز الطبية.
أبكي كل شهيد وأنا أحمله
مسندًا رأسه إلى عربة الإسعاف محاولًا أخذ قسطًا من الراحة من دوام عمل لا ينتهي تحدث سمير أبو حيدي عامل الإسعاف إلى مصراوي، عما يتعرض له هو وزملائه من استهداف متعمد يهدف للسفك بمن نجا من تحت الأنقاض "نعم يتسهدفونا بشكل يومي" أجاب سمير بكل تلقائية وكأنه اعتاد العبور تحت سماء تمطره بالقذائف.
لسمير باع طويل في محاولة استهداف الاحتلال له مذ بدأ عمله سنة 2000، يتذكر الرجل عام 2004 بينما كان ينقل المصابين على الناقلات من القصف إلى داخل عربة الإسعاف، ليجهز عليهم جنود الاحتلال معتلين دبابتهم ويفرغوا عليهم أعيرتهم النارية التي ظل أثرها في اليد اليمنى للرجل الخمسيني حتى يومنا هذا وكأنها وسام اتشح به وليست إصابة.
في طريقه لنقل الجرحى من منطقة العصافرة إثر قصف إسرائيلي استهدف المنطقة عام 2014، حاول طيران الاحتلال الإسرائيلي قصف سيارة الإسعاف أثناء نقل سمير للجرحى إلى المستشفى إلا أن القدر كتب سطرًا جديدًا لسمير مع نجاته للمرة الثانية من استهدافه مع تضرر الإطار الخارجي للسيارة فقط دون أي أن يلحق أي أذى به أو من معه "حتى لو استهدفونا وقصفونا سنكمل عملنا" يقول صاحب الـ 57 ربيعًا إلى مصراوي.
استهدفت صواريخ الاحتلال سمير للمرة الثالثة أثناء توجهه لنقل المصابين لكنها أخطأته وأصابت جانب الطريق بدلًا عنه، لكن قذيفة أخرى أصابت زملائه في طريق آخر خلال رحلتهم لإسعاف الجرحى.
عند معبر بيت حانون كان 3 من زملاء سمير في طريقهم إلى إسعاف الجرحى بعد تلقيهم اتصالاً بوقوع قصف في إحدى المناطق، لتنزل عليهم القذيفة وترقيهم شهداء قبل الوصول إلى الجرحى "أبكيهم وأبكي كل شهيد وأنا أحمله" يحكي الرجل عن استشهاد رفاق عمره أثناء عملهم.
رحلة سمير من مكان القصف حتى باب المستشفى محفوفة بالمخاطر وليست سهلة بالنسبة للجرحى فيتذكر رجل الإسعاف استدعائه فرق الدفاع المدني لفتح مدخل مجمع الشفاء بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي له مما عرقل دخول سيارات الإسعاف إلى المجمع.
نزح سائق سيارة الإسعاف من منزله في معسكر جباليا شمال قطاع غزة بسبب الإنذارات بالقصف جراء حرب يقول إنه لم يشهد لها مثيل منذ أن اعتاد الاحتلال الإسرائيلي اقتحام سماء غزة وقتما يحلو له وتنفيذ الغارات على أهلها.
سياسة تحويل الجرحى إلى شهداء
وفي حديثه مع مصراوي يقول صلاح عبد العاطي مدير جمعية "حشد" لحقوق الإنسان إن الأوضاع في قطاع غزة غاية في الكارثية والخطورة مع شن إسرائيل ما وصفها بـ"حرب الإبادة" بحق سكان قطاع غزة مؤكدا أن نصف من استشهدوا من الأطفال والنساء .
حذر صلاح من تحول مستشفيات غزة إلى مشارح جراء انهيار الوضع الصحي في قطاع غزة مع عدم كفاية الأسرة في المستشفيات لهذا الكم من الجرحى الذين يعانون في الأساس من نقص المستلزمات الطبية.
أشار صلاح إلى اضطرار عدد كبير من المستشفيات في القطاع لقطع الكهرباء عن أقسام مختلفة داخلها لتوفير الوقود وإبقاء الكهرباء قيد العمل في غرف العمليات والعناية المركزة التي تواجه خطر التوقف في الساعات القادمة.
أكد عبدالعاطي على اتباع الاحتلال الإسرائيلي نهج يهدف لإيقاع أكبر عدد من الشهداء من خلال استهداف الأطقم الطبية والدفاع المدني بشكل شخصي وعرقلة أي شيء من شأنه مساعدة الجرحى، إضافة إلى استهداف سيارات الإسعاف وتدميرها بشكل مباشر أثناء نقلها للجرحى، مشيرًا إلى خروج العديد من المستشفيات عن الخدمة مثل مستشفى بيت حانون والمستشفى الإندونيسي وريف النجار وجمال عبدالناصر بسبب القصف العنيف في محيطهم.
فيديو قد يعجبك: