"صفر وفيات" في 139 يومًا.. كيف انتصرت فيتنام على وباء كورونا؟
كتبت- رنا أسامة:
مع استمرار تفشي جائحة "كوفيد 19" وحصدها عشرات آلاف الأرواح في جميع أنحاء العالم، برزت فيتنام كنموذج آسيوي استثنائي نجح إلى حدٍ كبير في احتواء الوباء ولم يتأثر به إلا بدرجة طفيفة للغاية، وذلك رغم حدودها البرية المشتركة مع الصين التي ظهر فيها الوباء في أواخر ديسمبر الفائت، واستقبالها ملايين الصينيين كل عام.
لم تسجل فيتنام، البالغ عدد سكانها نحو 97 مليون نسمة، سِوى 332 إصابة بالمرض ولم تسجل أي حالة وفاة حتى اللحظة، مع أنها دولة مُنخفضة الدخل وذات نظام رعاية صحية أقل تقدمًا عن غيرها. ووفق إحصاءات البنك الدولي، فإنها لا تضم سِوى 8 أطباء لكل ألف شخص، أي ثُلث النسبة المُسجلة في كوريا الجنوبية.
وبعد "إغلاق شامل" دام ثلاثة أسابيع، رفعت فيتنام قواعد التباعد الاجتماعي في أواخر أبريل. ولم تبلغ عن أي إصابات محلية لأكثر من 40 يومًا. كما أعادت استئناف الأعمال وفتح المدارس لتعود الحياة تدرجيًا إلى طبيعتها، وفق تقرير سابق لشبكة "سي إن إن" الأمريكية.
إذن كيف نجحت جارة الصين أن تنجو بنفسها من آفة الفيروس التاجي المُستجد؟ وهل يمكن أن تكون نموذجًا تتبعه بلدان نامية أخرى مماثلة؟
الجواب، وفقًا لخبراء الصحة العامة، يكمن في مجموعة من العوامل، بدءًا من استجابة الحكومة السريعة والمبكرة لمنع انتشار الجائحة، مرورًا بالتتبع الصارم للمُخالطين للمُصابين والحجر الصحي الفعّال وتعبئة المجتمع، وصولًا إلىالفحص بأسعار مناسبة وتوفير أدوات الوقاية المصنوعة محليًا.
المنع المبكر
تحضّرت فيتنام للجائحة بإجراءات واسعة النطاق قبل أسابيع من اكتشاف أول حالة على أراضيها، ولجأت إلى استراتيجية "المنع المبكر" للمرض إدراكًا منها أن نظامها الطبي قد يُشلّ بعد وقت قصير حتى بسبب انتشار طفيف للفيروس.
قال فام كوانج تاي، نائب رئيس إدارة مكافحة العدوى في المعهد الوطني للصحة وعلم الأوبئة في هانوي للسي إن إن: "لم ننتظر فقط إرشادات منظمة الصحة العالمية. استخدمنا البيانات التي جمعناها من خارج وداخل (البلد) لاتخاذ إجراءات مبكرة".
بحلول أوائل يناير، كانت فيتنام بدأت بالفعل فحص درجات الحرارة للركاب القادمين من ووهان- بؤرة انتشار الوباء- في مطار هانوي الدولي. وذكرت هيئة الإذاعة الوطنية في البلاد - وقتذاك- أن المسافرين الذين يعانون من الحمى تم عزلهم ومراقبتهم عن كثب.
بمنتصف الشهر نفسه، بدأ نائب رئيس الوزراء الفيتنامي فو دوك يأمر الوكالات الحكومية باتخاذ "إجراءات صارمة" لمنع انتشار المرض في البلاد، وتعزيز الحجر الصحي عند البوابات الحدودية والمطارات والموانئ، وفق السي إن إن.
في 23 يناير، أكّدت فيتنام أول حالتي إصابة بكورونا؛ لمُقيم صيني ووالده الذي جاء من ووهان لزيارة ابنه. وفي اليوم التالي (أي في 24 يناير)، أُلغيت جميع الرحلات الجوية من وإلى ووهان، وجرى فحص درجة حرارة الركاب القادمين إلى المطارات الرئيسية في البلاد، واستخدمت الفنادق كأماكن للحجر الصحي مقابل رسوم، حسبما ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي).
وفي 27 يناير، أعلن رئيس الوزراء الفيتنامي نجوين شوان فوك الحرب على الفيروس التاجي. وقال في اجتماع عاجل للحزب الشيوعي إن "مكافحة هذا الوباء مثل محاربة العدو". وبعد 3 أيام، شكّل لجنة توجيهية وطنية لمكافحة تفشي المرض- وهو اليوم ذاته الذي أعلنت فيه منظمة الصحة العالمية "حالة طوارئ صحية دولية".
وكثفت فيتنام من إجراء اختبارات صحية للكشف عن الفيروس على الحدود وفي أماكن أخرى مُعرضة لنقل المرض، والتي بلغت حتى الآن 275 ألفًا. كما أغلقت المدارس في نهاية يناير، وحتى منتصف مايو ، وبدأت حملة واسعة لتعقب الوافدين وتتبع المصابين.
في 1 فبراير، أعلنت فيتنام الفيروس "وباءً وطنيًا"- مع تسجل 6 حالات مؤكدة في جميع أنحاء البلاد- وأوقفت رحلاتها الجوية مع الصين، وعلّقت تأشيرات الدخول للمواطنين الصينيين في اليوم التالي، بحسب السي إن إن.
على مدار ذلك الشهر، توسعت قيود السفر والحجر وتعليق التأشيرات مع انتشار الفيروس خارج الصين إلى دول مثل كوريا الجنوبية وإيران وإيطاليا. وفي 12 فبراير، أغلقت مجتمعًا ريفيًا بالكامل مكونًا من 10 آلاف شخص شمال هانوي لمدة 20 يومًا بعد اكتشاف 7 إصابات ، في أول عملية إغلاق واسعة النطاق معروفة خارج الصين.
كما قررت استمرار إغلاق المدارس والجامعات، التي كان مُقررا إعادة فتحها في فبراير بعد عطلة رأس السنة القمرية، وأُعيد فتحها فقط في مايو. وفي نهاية مارس، علّقت دخول جميع الرعايا الأجانب، وشمل التعليق أيضًا ذوي الأصل الفيتنامي وأفراد الأسر المعفيين من التأشيرة الذين يعيشون في الخارج.
ونظرا لأن أغلب من عادوا إلى فيتنام كانوا طلابًا أو سياحًا أو رجال أعمال، فكانوا غالبا من فئات عمرية شابة وأكثر صحة، لذا كانت لديهم فرص جيدة لمواجهة المرض وعدم نقل العدوى إلى أقاربهم كبار السن، وهو ما جعل النظام الصحي الفيتنامي يُكرس كل موارده للحالات الخطرة القليلة.
وقال البروفسور جاي ثويتز، مدير وحدة البحوث السريرية بجامعة أكسفوردفي مدينة هوشي منه، للبي بي سي: "تصرفت فيتنام بسرعة كبيرة جدا بشكل بدا وكأنه مبالغ به في ذاك الوقت، لكن تبين فيما بعد أنه كان تصرفا معقولًا".
تتبع المُخالطين
ساهمت الإجراءات المبكرة الحاسمة التي اتخذتها فيتنام بشكل فعّال في كبح الانتقال المجتمعي لعدوى الفيروس، حتى أنها لم تُسجل سوى 16 حالة فقط في 13 فبراير، أي بعد 20 يوم من ظهور المرض في البلاد. ولمدة ثلاثة أسابيع، لم تُسجّل أي إصابات جديدة - حتى ضربت البلاد "موجة كورونا ثانية" في مارس، جلبها الفيتناميون العائدون من الخارج.
وعزا البروفسور ثويتز، في تصريح سابق لبي بي سي، ذلك الأمر إلى كون فيتنام "دولة تعاملت مع كثير من الجوائح في الماضي، من سارس عام 2003، مرورا بإنفلونزا الطيور عام 2010 إلى جانب جائحات كبيرة من الحصبة وحمى الضنك".
وأضاف: "الحكومة والسكان معتادون جدًا جدًا على التعامل مع الأمراض المعدية ويعرفون كيف يستجيبون لمثل هذه الأوضاع وربما على نحو أفضل بكثير من الدول الغنية"، وفق البي بي سي.
تتبعت السلطات الفيتنامية بدقة المُخالطين المباشرين وغير المباشرين للمرضى الذين تأكدت إصابتهم بـ"كوفيد 19" ووضعتهم في الحجر الصحي الإلزامي لمدة 14 يومًا. ووفق السي إن إن، ينبغي للمرضى في فيتنام إعطاء السلطات الصحية "قائمة شاملة" لجميع الأشخاص الذين التقوا بهم قبل أسبوعين من اكتشاف إصابتهم.
جهود البحث عن المُصابين في فيتنام كانت "دقيقة للغاية"، لدرجة أنها لم تقتصر على الاتصالات المباشرة للمرضى فقط، بل شملت الاتصالات غير المباشرة أيضًا. وقال ثويتس: "إنها أحد الآليات الفريدة في الاستجابة للوباء. لا أعتقد أن أي دولة طبّقت حجرًا صحيًا إلى هذا المستوى".
تم وضع جميع المخالطين بشكل مباشر للمرضى إلى الحجر الصحي الحكومي في المراكز الصحية أو الفنادق أو المعسكرات العسكرية. فيما أُمر بعض المخالطين بشكل غير مباشر بالخضوع لعزل ذاتي في المنزل، وفق دراسة أجراها 20 من خبراء الصحة العامة في البلاد على تدابير احتواء الفيروس بفيتنام.
وحتى 1 مايو، تم عزل حوالي 70 ألف شخص في مرافق حكومية بفيتنام، فيما خضع حوالي 140 ألفًا للعزل في المنازل أو في الفنادق. وشمل الحجر الصحي المرضى والأصحاء؛ إذ أن 40 بالمئة من الحالات لم تكن لديهم أدنى فكرة أنهم كانوا حاملين للفيروس لولا إجراء الاختبارات، بحسب البي بي سي.
كما اختبرت السلطات الفيتنامية أكثر من 15 ألفًا على صلة بالمستشفيات، من ضمنهم ألف عامل في مجال الرعاية الصحية.
وعندما أصبح مستشفى "باش ماي" في هانوي، أحد أكبر مستشفيات فيتنام، "بؤرة ساخنة" لانتشار كورونا مع تسجل عشرات الإصابات في مارس، تم إغلاقه وتعقب ما يقرب من 100 ألف شخص مرتبط به، بما في ذلك الأطباء والمرضى والزوار ومُخالطيهم، بحسب السي إن إن.
تعبئة المجتمع
علاوة على ذلك، أطلقت فيتنام حملة واسعة لتوعية المجتمع ونشر معلومات عن سبل الوقاية من الوباء مع رسائل فيديو ومُلصقات لتخبر الناس بما ينبغي فعله لمواجهة الولاء، على نحو يُذكّر بالأسلوب البطولي الذي انتهج خلال حرب فيتنام، لتوحيد الناس في صراعهم ضد الفيروس- عدوهم المشترك.
وسارعت الحكومة لبث إعلانات في الصحف وعلى شاشات التليفزيون لإبلاغ المواطنين بأماكن تواجد المرضى وتوقيت إصابتهم، داعية إيّاهم إلى إجراء الفحوصات اللازمة إذا اكتشف أيًا منهم تواجده في محيط أي مريض.
الأمر الذي منح إحساسًا بأن "المجتمع الفيتنامي كان يعمل جنبًا إلى جنب لهزيمة العدو"، كما قال الدكتور تود بولاك من جامعة هارفارد الأمريكية ويعمل على تحقيق التقدم الصحي في فيتنام.
واصطف الشعب الفيتنامي بدرجة كبيرة إلى جانب حكومتهم لأنهم "رأوا أن أعضاء الحكومة كانوا يقومون بكل ما في وسعهم وكانوا ينجحون كما أنهم كانوا مصممين على حماية السكان بأي ثمن"، بحسب البي بي سي.
ودعا رئيس الوزراء الفيتنامي نجوين شوان فوك، الشعب إلى دعم "هجوم الربيع في حرب طويلة"، فيما اعتُبِر إشارة واضحة إلى الهجوم العسكري الناجح ضد القوات الأمريكية في أوائل عام 1975.
وقال البروفيسور كارل ثاير، الأستاذ بجامعة نيو ساوث ويلز في أستراليا لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية: "فيتنام مجتمع تعبئة، فهي دولة الحزب الواحد، وهي جيدة في الاستجابة للكوارث الطبيعية، ونجحت استراتيجيتها الصارمة في تفادي كارثة".
فيديو قد يعجبك: