"عنف مفرط": نحو عشرين عاما في توثيق وفيات سجناء ومعتقلين لدى الشرطة
لندن- (بي بي سي):
قبل وقت طويل من وفاة جورج فلويد والاحتجاجات التي عمت الولايات المتحدة الأمريكية وبعض العواصم العالمية في سياق ما عرف بحركة "حياة السود مهمة"، كان الناشط والمخرج السينمائي البريطاني، كين فَيرَو، منشغلا بمشروع لتوثيق حالات الوفاة خلال عمليات الاعتقال والدَهم التي تقوم بها أجهزة تنفيذ القانون، والتي تطال في الغالب السود والأقليات الأخرى.
فقبل أكثر من 19 عاما، أثار فَيرَو هذه الموضوع في فيلمه المثير للجدل "لا عدالة"، الذي حظي باهتمام نقدي كبير وبعروض كثيرة في العديد من المهرجانات السينمائية أو الفعاليات الحقوقية. وها هو اليوم يعود إليه بفيلمه الجديد "عنف مفرط"، الذي قدم عرضه الأول في مهرجان لندن السينمائي الأخير، موثقا حالات جديدة حدثت بعد عرض فيلمه السابق، ومقدما وثائق ويوميات لفعاليات احتجاجية وما يراه أدلة جديدة في هذا الملف.
ومثل هذا المشروع لم يكن، بالنسبة فَيرَو، مجرد فيلم سينمائي أو سلسلة أفلام، بل قضية نضال وحملة مستمرة كرس فنه لخدمتها وكان أحد الناشطين الفاعلين فيها، يحدوه نزوع لا يحد لكشف الحقيقة وتطبيق العدالة لمن يراهم ضحايا العنف المفرط الذي تمارسه الأجهزة الشرطية في عالمنا المعاصر. وعندما تمر فترة طويلة تطمس فيها الأدلة، تتراجع إمكانية الكشف عن الحقيقة وتزداد بالمقابل ضرورة الكفاح من أجل إحقاق العدالة.
وقد انعكس ذلك في أسلوبه السينمائي في التعامل مع مادته، فهو لا يضع فاصلاً بينه وبين موضوع السينمائي؛ بل نراه حاضرا شخصيا في كثير مشاهد فيلمه التي تبدو كأنها يوميات يوثقها بكاميرته المحمولة، سواء في المظاهرات والاحتجاجات التي صورها أو عبر مرافقته لأهالي الضحايا ومشاركته في اجتماعاتهم ونشاطاتهم ومراجعاتهم الرسمية، ضمن ما يصفه بأنها "حملة مستمرة" أو "بلانهاية"، وهي العبارة التي جعلها مثل وسم مكتوب ظل يومض في بعض مشاهد فيلمه.
واستخدم فَيرَو أسلوب الراوي، حيث يدخل على الصورة راويا للأحداث، في صيغة رسالة يوجهها إلى ابنه وعبره للأجيال الجديدة لمواصلة الكفاح من أجل إحقاق العدالة، فنراه يقول له: "أترك هذا الفيلم لك ولجيلك بوصفه دليلا على الكفاح".
وفي مقطع أخر يقول: "هذا الفيلم هو ذاكرة لأولئك الذين لا يمكن نسيانهم، وتحذير لأولئك الذين يرفضون رؤية" (ما حدث).
"لا عدالة"
لقد نجح فَيرَو في فيلمه المثير للجدل "لا عدالة" في عام 2001 (يمكن مشاهدته على موقعي فيمو ويوتيوب) أن يلفت الانتباه إلى هذه القضية، في كشفه الصادم عما يراه وفيات "مشكوك فيها" في السجون ومراكز الشرطة البريطانية. إذ يحصي نحو 1000 حالة وفاة "مشكوك فيها" وقعت في السجون في الفترة بين 1969 و 1999 ويرى أن العدالة لم تتحقق بالنسبة للضحايا في معظمها.
وعلى الرغم من الاحتفاء النقدي بالفيلم وعروضه الكثيرة في مهرجانات ومناسبات سينمائية، تردد كثير من القنوات التلفزيونية، التي سبق أن عرضت أفلام فَيرَو والأفلام التي انتجها شركته "ميغرنت ميديا"، عن عرض هذا الفيلم بعد السجال القانوني الذي أحاط بالفيلم وتهديد اتحاد العاملين في أجهزة الشرطة بمقاضاة من يعرضه ويروج له.
بيد أن فيلم فَيرًو الجديد يأتي وسط زخم كبير وفره الحراك الضخم لحركة "حياة السود مهم" بكل ما أثارته من احتجاجات ومراجعات فكرية للموضوعات المتعلقة بواقع العنصرية والعلاقات العرقية. ولا يمكننا القول هنا أن فَيرًو يستثمر هذا الزخم، بل الحقيقة هي العكس، إذ سلط هذا الزخم الضوء على أهمية مشروعه وجهده الاستشرافي المميز في بحث هذه القضية.
يُكمل فَيرَو، وشريكه الدائم في كتابة الفيلمين، الروائي والكاتب، طارق محمود، ما قدماه سابقا بإضافة توثيق عدد من الحالات الجديدة وقعت في الفترة بين 1995 و 2006، وهي نماذج اختارها صانعا الفيلم ووثقاها بعناية وروية، من دون أن يسعيا لتقديم حصر شامل لكل الحالات التي وقعت في هذه الفترة، وهو خيار قد يضعف الفيلم عند عدم توفر المادة التوثيقية المناسبة لها كلها.
ومن بين الحالات التي قدمها الفيلم : بريان دوغلاس، وهو زميل سابق للمخرج أثناء الدراسة، توفي جراء كسور في جمجمته إثر ضرب بهراوة الشرطة على رأسه في عام 1995، وكريستوفر أدلر الذي تُرك ليموت على أرض مركز الشرطة بعد أن أصيب برأسه أيضا أثناء عملية اعتقاله. والبرازيلي جين تشارلس دي مينيزيز (27 عاما) الذي أطلقت الشرطة النار عليه وقتلته في محطة ستوكويل جنوبي لندن في يوليو/تموز 2005 بعد الاشتباه في انه قد يكون واحد من أربعة إرهابيين حاولوا القيام بهجوم انتحاري بالقنابل على نظام النقل العام قبل يوم، وهاري ستانلي، وهو نجار ومصمم ديكور أطلقت الشرطة النار عليه متوهمة أنه يحمل سلاحا وفي الحقيقة أنه كان يحمل رجل منضدة خشبية، وبول كوكر الذي توفي وحيدا في زنزانته وروجر سيلفستر الذي أغمي عليه أثناء عملية اعتقال عنيفة في عام 1999 ودخل في حالة غيبوبة لم يصح منها أبدا، فضلا عن نور سعيد الذي توفي جراء سقوطه من الطابق الثالث أثناء عملية دهم للشرطة في يناير/ كانون الأول 2006.
ولا يكتفي الفيلم بسرد ما جرى لهؤلاء الأشخاص بل يبحث في ذكرياتهم وانطباعات أصدقائهم وعوائلهم أيضا عنهم، ليقربهم أكثر إلى المشاهد في صورة نماذج إنسانية كانت لها أفراحها وأتراحها وطموحاتها وأحلامها.
ويرافق عوائلهم المطالبين بإحقاق العدالة لهم في اجتماعاتهم وفي مراجعاتهم للسلطات الرسمية وفي مظاهراتهم واحتجاجاتهم. وقد ظل يرافقهم على مدى أكثر من عقد في كثير من نشاطاتهم تلك، موثقا مطالباتهم بإحقاق العدالة لذويهم؛ ومعظمهم مر على موتهم أكثر من عقد.
مقالة سينمائية
ويقع في قلب مشروع فَيرَو التزام أيديولوجي بقضايا الفقراء والمهمشين وربط واضح بين اختلالات القضايا الطبقية والعلاقات العرقية في مجتمعاتنا المعاصرة. فمعظم ضحاياه هم من عوائل السود والأقليات الأخرى والطبقات الفقيرة، بيد أنه لا يكتفي بتوثيق تلك الحالات بل يضعها في سياق تاريخي وعالمي أوسع، مدفوعا بنزوع لا يحد للعدالة الإنسانية، عبر ربطها بما يراه سياق أوسع من الاختلالات والأزمات التي يخلفها النظام الرأسمالي والحروب "الإمبريالية" التي تسبب فيها.
فنراه يحرص على تقديم مشاهد من المظاهرات التي خرجت ضد الحرب على العراق، حيث نرى الكثير من الشرائح التي يتحدث عنها ممثلة فيها، أو يقدم مشاهد عن الحرب الفيتنامية والاحتجاجات عليها، كتلك المشاهد الشهيرة لأطفال القرى الفيتنامية التي قصفت بقنابل النابالم الحارقة.
ويستعير فَيرَو عنوان فيلمه من مصطلح سَكه الروائي البريطاني، أنتوني بيرجس، في روايته المعروفة "البرتقالة الميكانيكية" التي قدمها المخرج ستانلي كوبريك إلى السينما في فيلم يعد اليوم كلاسيكياتها الشهيرة. كما بات عنوانا لفرقة موسيقية وأكثر من إلبوم موسيقي وأغنية، وانتشر استخدامه للتعبير عن العنف المفرط الذي تقدمه صور وسائل الاتصال والسينما. وفي واحد من محاور الفيلم يحاول فَيرَو محاكمة هذا المفهوم فكريا وجماليا ويدعو للخروج عن الإطار الذي تقدمه وسائل الإعلام، ومن بينها السينما، للعنف، كما في تلك الاستعارة عن التي سنشير إليها لاحقا من المخرج بيير باولو بازوليني، ويضعها في سياق يعيدنا إلى نهج ما يعرف بـ"سينما الحقيقة" الذي نشأ مع المخرج دزيغا فيرتوف ومن سار على نهجه التوثيقي لاحقا.
لقد وقعت على كاهل مونتير الفيلم، ستيف موريس، مهمة بالغة الصعوبة في الخروج بمادة فيلمية متماسكة كتلك التي قدمها الفيلم خلال 75 دقيقة من كل تلك المواد والبيانات والشهادات العائلية ومقاطع كاميرات المراقبة والمقاطع المصورة التي جمعت على مدى نحو عقدين والتي صورها فَيرَو بكاميرته الشخصية أو بالاستعانة بالمصورين اللذين عملا معه وهما: المخرج والمصور السينمائي والفوتغرافي قتيبة الجنابي والمصور سليمان غارسيا.
ولم يعدم فَيرَو استخدام أي وسيلة تدعم حججه وبراهينه والأفكار الآيديولوجية التي يقدمها في فيلمه، فقدم مقالة سينمائية " Film essay" ناجحة، فكان أقرب إلى الصحفي الاستقصائي الذي يستخلص الحجج والبراهين التي تدعم مقدمته المنطقية التي انطلق منها، والباحث الذي يقدم لنا مقالا مدعما بالبراهين لا سردا سينمائيا يترسم حبكة معينة. وهنا يقترب كثيرا من أبرز رموز هذا النوع من الأفلام من أمثال المخرج كريس ماركر، وربما اشترك أيضا في بعض سمات هذا النهج مع معاصره ومواطنه المخرج البريطاني أدم كيرتس، في استخدام ذلك النوع من السرد القائم على تتبع الحجج المنطقية والذي غالبا ما ترافقه في الخلفية موسيقى إلكترونية حادة تحاول أن تضفي عليه توترا وتشد المشاهد إلى متابعته.
ولا يقدم لنا الفيلم حبكة قصصية أو سردا زمنيا متسلسلا، بل قفزات وانتقالات بين فترات زمنية وأماكن مختلفة، يجمعها بحث المخرج الشخصي واستنتاجاته المنطقية، فنراه لا يكتفي بالصورة السينمائية بل يستخدم الكلمة والنصوص المكتوبة والشعارات، بما يذكر بسمات أسلوبية للمخرج الطليعي الفرنسي جان لوك غودار، الذي بدوره انخرط في إنتاج مقالات سينمائية إلى جانب أفلامه الروائية المعروفة.
ولا تبدو النصوص والاستعارات فَيرَو التي يستخدمها مجرد تعليقات خارجية على الصورة في فيلمه، بل أن كثيرا منها هي استعارات من منظرين أو كتاب (سوزان سونتاغ وجيمس بالدوين) ومخرجين (بيير باولو بازوليني وكريس ماركر) وناشطي حقوق مدنية (مالكوم أكس)؛ يُدخلها في نسيج سرده السينمائي ويتحاور معها كمقولات جمالية أو فكرية، تدخل صوره في جدل معها، كما هي الحال في المشهد بالغ التأثير الذي حصل عليه من كاميرات الشرطة للمراقبة والذي يصور وفاة أحد الضحايا ببطء في زنزانة الاعتقال، وإحالته في تعليقه إلى مفهوم المخرج الإيطالي بازوليني عن أهمية ومركزية اللقطة الطويلة في التعبير السينمائي، ومن ثم مقارنته بين فعل الموت الذي نراه حادا وسريعا في السينما، ولحظة الموت التي نراها في الفيلم الذي أمامنا بكل قسوتها وألمها، ليخلص إلى أن الموت فعل قاسٍ و لا يمكن أن يكون فعلا سينمائيا.
وبسبب ما يراه غياب تحقيق العدالة لضحاياه، ينثر فَيرَو كل ما وثقه من مقاطع فيلمية وما جمعه من بيانات وأدلة وبراهين بصرية أو حجج منطقية أو استعارات ومقولات فكرية واضعا إياها أمام مشاهديه الذين يجعلهم أشبه بهيئة محلفين منتظرا حكمهم النهائي ومحفزا لإحساسهم وميلهم الفطري للعدالة الإنسانية ومراهنا عليه.
فيديو قد يعجبك: