128 حالة في 29 دولة.. كيف أصبح "حجب الإنترنت" شائعا في 2019؟
كتبت- رنا أسامة:
تحوّلت عمليات حجب الإنترنت وخدمات الاتصالات بشكل مُتعمّد في بعض الدول إلى مشكلة شائعة خلال هذا العام، وقالت شبكة "سي إن إن" الأمريكية إن بعض الدول لجأت إلى هذا التكتيك خلال الاحتجاجات وفترات الاضطرابات، للسيطرة على تدفق المعلومات، وهو الأمر الذي يترك مواطني هذه الدول في عُزلة عن العالم الخارجي.
واستهلّت الشبكة الأمريكية تقريرها المنشور على موقعها الإلكتروني بالقول: "في بداية هذا العام، عندما حجبت السلطات في زيمبابوي الوصول إلى الإنترنت في جميع أنحاء البلاد إثر احتجاجات مُناهضة للحكومة، حذّرت جماعات حقوقية من أن (عمليات الحجب المُماثلة لا ينبغي أن تُصبح الوضع الطبيعي الجديد)".
وبعد مُضيّ 12 شهرًا، يبدو أن هذا التحذير لم يلقَ آذانًا صاغية، مع تكرّر الأمر نفسه في دول أخرى، بما في ذلك مدينة كشمير الهندية التي تم قطع خدمة الإنترنت عن سُكانها منذ أكثر من 137 يومًا، بحسب جماعة "الوصول الآن Access Now" المعنيّة بتعقّب حرية الإنترنت. فيما قطعت الحكومات الاستبدادية في كلٍ من الصين وميانمار الخدمة لفترات أطول.
وجاء قطع الخدمة في كشمير مع اجتياح القوات الهندية لها في أعقاب إلغاء الحكم الذاتي للمنطقة، وهو الأمر الذي ترك بعض سُكانها في حيرة من أمرهم ولا يُدركون السبب وراء حجب الخدمة. وبدون الوصول إلى الإنترنت، لم يستطيعوا إيصال رسائلهم للخارج.
ونتيجة لعجز سُكان كشمير عن الوصول إلى الإنترنت منذ فترة طويلة، بدأ تطبيق التراسل الفوري واتساب يمسح حساباتهم لكونها لم تُفعّل منذ وقت بعيد، بحسب السي إن إن.
بدوره، وصف ديفيد كاي، مُقرر الأمم المتحدة المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، الحجب المُستمر للإنترنت بأنه "حصار على الاتصالات" و"عقوبة جماعية حتى بدون الادعاء بارتكاب جريمة كامنة".
وأشارت الشبكة إلى أن هذا التكتيك امتد هذا الأسبوع إلى أجزاء أخرى من الهند، حيث قامت السلطات في مناطق متعددة من البلاد، بما في ذلك أجزاء من العاصمة نيودلهي، بقطع خدمات الهاتف والإنترنت وسط احتجاجات واسعة النطاق مُناهضة لمشروع قانون الجنسية المثير للجدل. وتضرر عشرات ملايين الأشخاص جراء تلك الخطوة التي أثارت بدورها غضبًا واسعًا ولاقت تنديدًا من قِبل ساسة وحتى بعض القُضاة.
في المقابل، قوبِلت الرقابة الهندية المتشددة على الإنترنت بترحيب وسرور بالغين من قِبل الصين، حيث أشار إليها إعلامها الحكومي باعتبارها "تأييدًا لنهج بكين". فقالت صحيفة "الشعب" اليومية إن المثال الهندي أظهر أن "قطع الإنترنت في حالة الطوارئ ينبغي أن يكون ممارسة مُعتادة للدول ذات السيادة".
أين بدأ ذلك؟
في أعقاب أعمال الشغب العِرقية والاضطرابات العنيفة في أقصى غرب مقاطعة شينجيانج عام 2009، قطعت السلطات الصينية الوصول إلى خدمات الإنترنت والهاتف في المنطقة بأسرها.
وفي حين تم حجب الخدمة في مناطق أخرى حول العالم من قبل، فإنها عادة ما كانت تكون عرضيّة، نتيجة تدمير في كابلات بحرية خاصة بتشغيل الإنترنت. وبالرغم من أن شينجيانج غرقت في الظلام، وعزلت سكانها عن أصدقائهم وعائلاتهم، ودمرت الشركات التي تعتمد على شبكة الإنترنت، بدا الأمر وكأنه انحراف، وهو تكتيك لا يُمكن أو يستطيع أحد أن يستخدمه سِوى نظام استبدادي مثل الصين.
في السنوات العشر التي تلت ذلك، خلق الإنترنت ثورة في مجال الاتصالات بجميع أنحاء العالم النامي، حيث تجاوزت العديد من الدول الوسائل التكنولوجية القديمة وباتت تعتمد على الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي وطرق الدفع الإلكتروني، ما دفع إلى نمو الاقتصاد وربط المجتمعات.
ومع أن الإنترنت استُخدم في العديد من الدول لتنظيم التغيير السياسي، أصبح حجبه شائعًا بشكل متزايد، وأداة للسيطرة على الاضطرابات وخنق الانتقادات الموجّهة إلى الحكومات. ولم يقتصر هذا التكتيك على الدول الاستبدادية: الأسوأ حتى الآن يحدث في الهند، أكبر دولة ديمقراطية في العالم، وفق السي إن إن.
كما تبنّت الدول الأفريقية هذا التكتيك أيضًا، حيث قطعت زيمبابوي وجمهورية الكونغو الديمقراطية وتشاد وإثيوبيا جميعها إمكانية الوصول إلى الإنترنت في محاولة لكبح جماح الاحتجاجات المناهضة لحكوماتها.
ويتماشى هذا النهج مع الخط العام لزيادة الرقابة على الإنترنت. وأرجعت الشبكة هذا الأمر في جزء منه إلى انتشار التكنولوجيا المتطورة التي تجعل من الأسهل والأرخص مرُاقبة وتصفية التحركات عبر الإنترنت. كما أنها تتأثر أيضًا بتحوّل في التصور بشأن الرقابة على الإنترنت، والتي اعتُبرت ذات يوم أنها بمثابة معركة خاسرة.
وبالنسبة لدول أخرى، وتحديدًا في العالم النامي، فإن حجب الإنترنت يُمكن ببساطة أن يكون اختصارًا جذابًا لهذا المستوى من التحكم. عمليات الحجب تمنح الشرطة قدرة أوسع على السيطرة على الاضطرابات دون الحاجة إلى التمحيص المُفرط في وسائل التواصل الاجتماعي، والذي أصبح شائعًا في المجتمعات ذات الارتباط الشدي، كما تضمن للحكومة التأكد من أن رسالتها هي الوحيدة التي تُسمع حيال موضوع معين.
ففي عام 2018، تم تسجيل 196 حالة لحجب الإنترنت على مستوى العالم- وبشكل أساسي في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط- وفق جماعة "الوصول الآن". وفي النصف الأول من هذا العام وحده، كان هناك 128 حالة موثّقة في 29 دولة حول العالم. لكن يبدو أن 2019 هو الأسوأ على الإطلاق.
ووفقًا لـ "فريدوم هاوس"، وهي منظمة غير حكومية مقرها في واشنطن، يعيش ما يقرب من نصف سكان العالم في بلد "قطعت فيه السلطات شبكات الإنترنت أو الهاتف المحمول، لأسباب سياسية في كثير من الأحيان".
تداعيات كبيرة
فقدان الوصول إلى الإنترنت ليس مُجرد شيئًا مُزعجًا وحسب؛ فقد يحرم الأشخاص من الوصول إلى المعلومات الحيوية خلال فترات الاضطرابات، بما يُعرضهم للخطر. كما يُقيد قدرة وسائل الإعلام على مساءلة الحكومة أو الأجهزة الأمنية.
وأشارت الشبكة في هذا الصدد إلى أن جزء كبير من الاقتصاد العالمي يعتمد على تكنولوجيا الاتصالات -كل شيء بدءًا من تداول الأسهم عالية السرعة إلى الخدمات اللوجستية وخدمات التوصيل- وقد يكون لإغلاق الإنترنت تداعيات اقتصادية كبيرة أيضًا.
وبحسب تقديرات المجلس الهندي لبحوث العلاقات الاقتصادية الدولية، فإن حجب الإنترنت خلال الفترة من 2012 إلى 2017 كلّف اقتصاد البلاد أكثر من 3 مليارات دولار، وكان هناك الكثير من عمليات الحجب خلال الأعوام التي تلت ذلك.
ووفقًا لجمعية الإنترنت، وهي منظمة دولية غير ربحية، فإن "عمليات الحجب تؤثر على قدرة المواطنين على الحصول على معلومات دقيقة من المصادر الحكومية في أوقات الاضطرابات أو الطوارئ. كما يُصعّب على المواطنين الاتصال بأفراد العائلة والأصدقاء في أجزاء أخرى من البلاد، أو في بلدان أخرى".
وأضافت: "كما يُمكن أن تُعرقل جهود المُستجيبين الأوائل ومُقدمي الرعاية الصحية، إذ يحولهم التنسيق والتواصل بشكل فعّال في حالة الطوارئ أو وقوع كارثة طبيعية".
وذكرت الشبكة أن الأساليب المُستخدمة لحجب الإنترنت، وتحديدًا في حالات القطع الكُلي للخدمة، تكون واضحة إلى حدٍ ما. إذ تطلب الحكومة ببساطة من مزودي خدمة الإنترنت بقطع الاتصالات بالعالم الخارجي- بما يُشبه إيقاف تشغيل جهاز الرواتر المنزلي، ولكن للبلد بأكمله.
وحينما يتم قطع خدمة الإنترنت بشكل كُلي عن بلدٍ ما، فغالبًا لا تتوافر وسيلة للتحايل على هذا الحجب وإعادة تشغيله، حتى أن الأدوات المُضادة للرقابة مثل الشبكات الخاصة الافتراضية "في بي إن" لا تعمل في غياب الاتصال بالإنترنت. وبالنسبة لسكان كشمير، فقد لجأوا إلى قطار يجري إلى الإقليم المجاور، يستخدمه مُعظمهم يوميًا لتفقد بريدهم الإلكتروني ومواصلة سير عملهم.
أما الوسائل البديلة لتوفير إمكانية الاتصال بالإنترنت فتبدو مُكلّفة إلى حدٍ كبير. فالأقمار الصناعية باهظة الثمن وتتوقف على استعداد الشركات الخاصة لتحدّي الحكومات. فيما تتطلب شبكة "مِش Mesh"- التي تستخدم الهاتف والاتصال عبر الراوتر لخلق سلسلة من شبكات النِد للنِد من منطقة مقطوعة إلى الإنترنت المفتوح- مستوى من الكثافة السكانية الثابتة التي لا تتوافر بالضرورة في العديد من المناطق المتأثرة بحجب الإنترنت مثل كشمير.
ما الذي يُمكن فعله؟
في كثير من الأحيان، وتحديدًا في حالات الحجب الشامل، قد يؤدي قطع الاتصال بالإنترنت إلى انتهاك الحقوق التي يكفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 وغيره من المعاهدات الدولية. كما أكدت الأمم المتحدة مسؤولية الدول الأعضاء عن حماية وصول الناس إلى الإنترنت وحرية التعبير على الشبكة العنكبوتية..
وقال بيتر ميسيك، المستشار العام لجماعة "الوصول الآن": "ينبغي على الأمم المتحدة أن تتعقّب كل عمليات حجب الإنترنت".
وأضاف أن "عمليات الحجب لا يُمكن أن تنتهك الحقوق التي تكفلها الأمم المتحدة وحسب، بل إنها تُعرقل عمل المساعدات الدولية والأمن والتنمية".
وتابع: "وبالنظر إلى أن هيئات حقوق الإنسان كانت دعت منذ فترة طويلة إلى الرقابة، فإننا نتطلع الآن إلى ما وراء ذلك، وإلى الهيئات الفنية مثل الاتحاد الدولي للاتصالات، ومؤسسات التمويل، والهيئات الإقليمية مثل رابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان) والاتحاد الأفريقي، وإلى الأمين العام للأمم المتحدة نفسه لتوضيح أن عمليات الحجب تدابير غير مقبولة، وإهانة لقانون الأمم".
وفي هذا الشأن، لفتت الشبكة الأمريكية إلى أن امتلاك الحقوق وإنفاذها أمران مُختلفان تمامًا. ففي الهند، تم الطعن على بعض عمليات الحجب الفردية في المحاكم، وسط جهود مُستمرة لتغيير قانون الدولة الخاص بقطع الاتصال بالإنترنت لجعل تطبيقه أكثر صعوبة.
ووفق جماعة "الوصول الآن"، فإن الوعي المُتزايد بالأضرار الناجمة عن قطع الإنترنت خلق مزيدًا من التحديات المتكررة في المحاكم. وقالت إنه "حتى عندما لا تُصدر المحكمة حُكمًا بشكل مباشر لصالح المُدعي، أو حتى تنظر في القضية، فإن اتخاذ أي إجراء قانوني من شأنه أن يؤثر بشكل إيجابي على حقوق الإنسان لأولئك الذين يعانون من حجب الإنترنت".
وتم رفع العديد من القضايا بسبب حجب الإنترنت من قِبل أفراد وليس شركات الإنترنت، رغم أن الأخيرة قد تكون أكثر تضررًا. ورأت "الوصول الآن" وغيرها من الجماعات المعنيّة بحرية الإنترنت إن "هذه الصناعة يُمكن أن تلعب دورًا أوسع في هذه المعركة، على مستوى الثقل المالي والسُمعة".
ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، كافحت شركة "آبل" بشدة في مواجهة طلبات مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) من أجل فكّ تشفير هواتف آيفون.
لكن في العديد من الدول، تُعاني المحاكم من ضعف السلطة والنفوذ على نحو يجعل من غير المُحتمل أن تتحدّى عمليات الحجب. كما أن الصناعة نفسها أظهرت عدم رغبته في تحدّي الحكومات، مثل بكين، حيث توجد فرصة ضئيلة للنجاح في المحكمة - بما في ذلك "آبل".
وقال ميسيك: "يمكن لمجتمع الأعمال أن يتحد ويطالب الحكومات بكبح جِماح رغباتها في عمليات قطع الإنترنت وخنق حرية التعبير على الفضاء الإلكتروني"، مُشيرًا إلى أن "الكشف عن التكلفة المالية لعمليات الحجب أفضل طريقة يمكن من خلالها الشركات أن توضح التداعيات الاقتصادية الضارة لصانعي السياسات".
كما يُمكن للشركات أيضًا أن ترفض تنفيذ طلبات تعطيل الخدمة، وتتحدّى بدلًا من ذلك الحكومات بأدوات ضغط سياسية وقانونية، وفق ميسيك.
واختتمت الشبكة تقريرها بالقول إن عام عمليات حجب الإنترنت أصبحت مشكلة سائدة لا يُمكن إنكارها في عام 2019. ومع ذلك، أثبتت أن المدافعين عن حرية الإنترنت والمنظمات المناهضة للرقابة على الخدمة سيواجهون في العام المقبل مهمة أكثر صعوبة، تتمثل في إيجاد طريقة للرد على تضييق الخِناق الذي تمارسه بعض السلطات.
فيديو قد يعجبك: