صداع أوروبا.. كيف ألهى بريكست دول الاتحاد عن مواجهة التهديد الأخطر؟
كتبت- رنا أسامة:
قالت شبكة "سي إن إن" الأمريكية إن مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، المعروفة اختصارًا بـ"بريكست"، كانت بمثابة صداع كبير في رأس التكتّل منذ تصويتها على مُغادرته في عام 2016. وكان شاهدًا على ذلك رئيسان للوزراء، في مدة استغرقت 1274 يومًا، وانطوت على تمديد المُهلة النهائية المُحددة للتنفيذ 3 مرات، وصولًا لإجراء انتخابات عامة مرتين من أجل التوصل إلى اتفاق يعدّه البرلمان البريطاني "مقبولًا".
ولكن بدا طلاق بريطانيا من الاتحاد، وفق تحليل الشبكة المنشور على موقعها الإلكتروني، وكأنه "امتص الأكسجين من رئة بروكسل"- مقر الاتحاد الأوروبي- في الوقت الذي ركّز دول الاتحاد الأوروبي طاقتهم الدبلوماسية على قضية وحيدة تتعلّق بمغادرة إحدى الدول الأعضاء تكتلهم.
"تهديد طويل الأجل"
في ذلك الوقت، كان الاتحاد الأوروبي مُجبرًا على الالتفات بشكل أقل إلى المشاكل الأخرى بين الدول أعضائه، رغم أنها تحمل في طيّاتها تهديدًا طويل الأجل للمشروع الأوروبي ككل على نحو أخطر من تداعيات بريكست المُحتملة، بحسب السي إن إن.
وأرجعت الشبكة الأمريكية هذا الأمر إلى تقويض الاتحاد من قِبل دول من أعضائه تتجاهل حكم قانون الاتحاد الأوروبي، وتتخلّى عن المعايير الأوروبية العُليا فيما يتعلق بحقوق الإنسان وتواجه حرية التعبير بالسخرية.
واستشهدت الشبكة في ذلك الصدد بما حدث في بولندا مؤخرًا، حيث اضطرت المحكمة العُليا في البلاد إلى تحذير حزب "القانون والعدالة" الحاكم من أن إصلاحاتها القضائية المُقترحة يمكن أن تنتهك القانون الأوروبي بشكل صارخ على نحو قد يدفع إلى طرد بولندا من الاتحاد الأوروبي.
وقالت إن تحذير المحكمة العُليا في بولندا رُبما كان "مُبالغًا فيه" بعض الشيء، مُشيرة إلى أن الإصلاحات المُقترحة -والتي من شأنها السماح للحكومة البولندية بمعاقبة القُضاة في حال انخراطهم في النشاط السياسي- تتجاهل أحد بنود قانون الاتحاد الأوروبي المُتعلقة بـ"استقلالية القضاء عن الحكومة"، ولكن لا يعني هذا الأمر أن تُطرد بولندا من التكتّل الأوروبي.
وأوضحت الشبكة أنه لا يُمكن رسميًا طرد دولة عضو من الاتحاد الأوروبي، لكن يُمكن عقاب أيٍ من الدول الأعضاء بتعليق حقها في التصويت بموجب المادة (7) من معاهدة الاتحاد الأوروبي، والتي تهدف إلى معاقبة الدول التي لا تلتزم بالمبادئ التأسيسية للاتحاد الأوروبي. ومع ذلك تبقى هذه الدولة رسميًا عضوًا.
وأشارت إلى أن هذا الإجراء من شأنه أن يتطلب "اتفاقًا بالإجماع" بين باقي الدول الأعضاء لإجراء تصويت من أجل الإقدام على تلك الخطوة. وبموجب سياسات الاتحاد الأوروبي، استبعدت الشبكة الأمريكية إمكانية حدوث ذلك.
ونقلت الشبكة عن أستاذ القانون الأوروبي بجامعة لندن كوليدج رونان ماكريا، قوله إن: "المادة 7 لم تكن مصممة أبدًا للتعامل مع موقف يتعلق بجنوح أكثر من دولة (عضو بالاتحاد الأوروبي)". وحتى اللحظة، هناك عدة دول جانحة تُثير الفوضى في بروكسل.
وقالت أجاتا جوستيسكا- ياكوبوفسكا، وهي زميل باحث بارز في مركز الإصلاح الأوروبي، إن "انتهاك قانون الاتحاد الأوروبي في أي دول عضو" يخلق "تحديًا للثقة المُتبادلة برُمّتها (بين التكتّل وأعضائه). وهذا مبدأ أساسي لمشاريع مهمة داخله مثل السوق الواحدة أو العدالة ".
ولفتت الشبكة إلى أن المشكلة تكمُن في أن وضع دول الاتحاد الأوروبي قيد المراقبة من قِبل محكمة العدل الأوروبية، فيما تحترم المحاكم الوطنية القانون الأوروبي.
وفي هذا الشأن، أوضح أستاذ القانون الأوروبي رونان ماكريا أن "شبكة القواعد التي بموجبها تعترف الدول الأعضاء تلقائيًا بقرارات بعضها البعض مُهددة بتقويض من حكم القانون". وأضاف: "الاتحاد الأوروبي هو بيروقراطية صغيرة للغاية. يعتمد إلى حد كبير على القضاة الوطنيين وموظفي الخدمة المدنية الوطنيين لتنفيذ القانون".
وبينما تُخيم مشاعر الخوف والقلق على العديد من الدول الأوروبية إزاء احتمالية فرض الاتحاد الأوروبي سيطرته ليقف بالمرصاد لـ"حماقاتهم" المزعومة، يبدو أنه ما من سبيل للدول الأعضاء أن يمنحوا الضوء الأخضر لبروكسل من أجل الاستفراد بإحدى الدول. لذلك تُعد المادة رقم (7) غير نافذة"، بحسب السي إن إن.
"زاوية جهنمية"
كل ذلك يدفع بالاتحاد الأوروبي ناحية "زاوية جُهنمية"- على حد وصف الشبكة.
وتساءل السفير البريطاني السابق لدى بولندا تشارلز كروفورد: "ما الذي يمكن أن يُفكك الاتحاد الأوروبي؟ لن يحدث ذلك في اجتماع بين الدول الأعضاء يخلصوا فيه إلى القول: دعونا نُنهي ذلك. لكن ما قد يُساعد على بدء انهيار الاتحاد أن يعلو صوت بعض الدول الأعضاء بالقول: لم نعُد حقًا نقبل سيادة القانون الأوروبي بعد الآن".
المُفارقة في جوهر الاتحاد الأوروبي، كما تُشير الشبكة، أنه يُصِر على أن جميع الدول أعضائه تلعب بنفس قواعده بما في ذلك الإحجام عن التدخل في السياسة الداخلية لأي دولة عضو. وفي بعض النواحي، لا يتعدّى الاتحاد الأوروبي كونه اتفاقًا بين 28 دولة عدم خداع النظام، وفق السي إن إن.
ومع اقتراب أوروبا من دخول عام 2020، ترى الشبكة أنه يتعيّن عليها معالجة المشكلات التي تتجاهلها منذ عام 2016. فقد تطلّب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي اتفاق باقي الدول الأعضاء الـ27 بحزم على قرار واحد. ومع أن بروكسل نجحت في هذا الأمر، لكن كان عليها أن تُدير الأمر بشكل جيد مع كافة الأطراف.
كان مجلس العموم البريطاني أيّد خطة رئيس الوزراء بوريس جونسون، الخاصة ببريكست بحلول نهاية يناير 2020. وتحظر الخطة أي تمديد للفترة الانتقالية - التي تكون خلالها بريطانيا خارج التكتل الأوروبي لكن ملتزمة بالكثير من قواعده - لما بعد 2020.
وتتمثل الكُلفة باهظة الثمن لبريكست، بحسب المدير الإداري لمجموعة (أوراسيا) للاستشارات السياسية مجتبى رحمن، في أنه "صرف الانتباه والوقت ورأس المال السياسي عن مواجهة التحديات الحقيقية التي يواجهها الاتحاد الأوروبي نفسه".
وتابع: "كان بريكست عبارة عن تمرين على كيفية بناء فريق(من الدول الأعضاء)، يُمكّن الاتحاد الأوروبي من إبراز مدى توحّدهم. غير أنه في حقيقة الأمر لم يكن سوى قناع لإخفاء مدى تشتتهم واختلافهم إزاء التحديات الأكبر التي تواجه القارة (الأوروبية)".
وذكرت الشبكة أن هذه التحديات لا تقتصر فقط على تقويض الدول الأعضاء لقانون الاتحاد الأوروبي؛ إذ تنقسم القارة بشدة حول الطريقة المُثلى للتعامل مع التحديات الاقتصادية للتكتل والدور الذي يجب أن تلعبه أوروبا على الساحة العالمية.
يقول رحمن: "الزعيم الوحيد الذي لديه رؤية متماسكة هو (الرئيس الفرنسي إيمانويل) ماكرون، لكنه مُثار جدل فيما يتعلق بالطريقة التي يسير بها"، مُضيفًا:"نهجه يقود في الواقع إلى نتائج عكسية للغاية.. وبقدر ما يُمكن أن يؤلم الرئيس الفرنسي للاعتراف بذلك، فإن الاتحاد الأوروبي لا يُعوّل على إعادة انتخابه عام 2022".
الأمر الذي يعني، من وجهة نظر الشبكة، أن الاتحاد الأوروبي يدخل عقدًا جديدًا بمزيد من المفاوضات حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانقسامات كبيرة بين أعضائه، بلا خطة متماسكة تضمن توحيدهم والسير على النهج نفسه.
تحتاج أوروبا إلى تتخذ إجراءات ملموسة إذا كانت تتطلع إلى البقاء. وهنا يبرز السؤال: كيف يُمكن أن تستعيد الوحدة بين أعضائها.. بالعصا أم الجزر؟. وبينما قد تكون المادة (7) غير فاعلة، يُمكن للاتحاد الأوروبي أن يربط بين مقدار الميزانية الذي تمنحه لكل دولة عضو وبين سلوكها.
يقول ماكريا: "هذا يُهدد الاتحاد الأوروبي أكثر بكثير من طلاق بريطانيا. ورغم كل شيء، فإن بريكست قد عززّ وحدة التكتل".
وبدون حل مسألة بريكست، يُصبح من المُستحيل تجاهل هشاشة الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت الحالي، ما من نهج واضح يُمكن أن تسلكه بروكسل كي لا تجعل الأمور تزداد سوءًا. وبمُضيّ 2020، تُرجح الشبكة الأمريكية في ختام تحليلها أن بريكست لن يكون الشُغل الشاغل بالنسبة لأوروبا.
فيديو قد يعجبك: