روسيا تؤسس لسياسة تدشين جسر العلاقات مع القرم بقوة المصالح الاستراتيجية والاقتصادية
القاهرة - (أ ش أ):
شكل تدشين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل يومين ، جسرا يربط جنوب روسيا بشبه جزيرة القرم، وقيادته بنفسه شاحنة تقدمت طابور شاحنات روسية عبرت أطول جسر في أوروبا، رسالة سياسية واقتصادية لكل من أوروبا وأوكرانيا والولايات المتحدة بأن بوتين سيعود بالقوة الروسية إلى عصر الإمبراطورية السياسية والاقتصادية، ويحمل رمزية كبيرة يربط الجنوب الروسي بالقرم وذلك بعد أربع سنوات على ضم شبه الجزيرة من أوكرانيا.
يبلغ طول جسر القرم 19 كيلومترا وسيكون أطول جسور القارة الأوروبية متقدما على جسر فاسكو دى جاما فى عاصمة البرتغال لشبونة، ويربط الجسر الذى بلغت كلفة بنائه 228 مليار روبل (3.7 مليارات دولار) منطقة كراسنودار الجنوبية بمدينة كيرتش فى القرم فوق المضيق بين البحر الأسود وبحر أزوف.
وخلال فترة بنائه مارست الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية سياسة فرض العقوبات على الجهات المشاركة فى بناء الجسر، وخصوصا حليف بوتين رجل الأعمال أركادى روتنبرج الذى فازت شركته سترويغازمونتاج بعقد البناء ،وأثار ضم شبه الجزيرة فى 2014 إدانة كييف ودول الغرب.
وجاء تدشين بوتين لهذا الجسر لصعوبة الوصول إلى شبه الجزيرة من المناطق الجنوبية لروسيا بسبب الحواجز التي تقيمها العاصمة الأوكرانية "كييف" إضافة إلى العقوبات الغربية، وبالتالي انخفاض كمية المواد الغذائية التي يتم شحنها من روسيا إلى شبه الجزيرة "القرم"، لذا ترى موسكو أن الجسر سيلعب دورا مهما فى خفض اعتماد المنطقة على النقل البحري.
ردود الأفعال
أدان الاتحاد الأوروبي، بناء روسيا للجسر دون موافقة أوكرانيا باعتباره وفق الرؤية الأوروبية يشكل "انتهاكا لسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها"، ووصفت أوكرانيا ذلك الحدث بأنه احتلال حيث قال رئيس الوزراء الأوكراني فولوديمير جرويسمان إن "المحتل الروسي يستمر في انتهاك القانون الدولي"، متوعداً موسكو بـ "دفع الثمن غالياً جداً". ودانت فرنسا تشييد جسر اعتبرته "يساهم في حرمان أوكرانيا من الوصول إلى مياهها الإقليمية المعترف بها دولياً، واستخدامها".
لماذا الإصرار الروسي؟
يأتي إصرار روسيا على مد جسور العلاقات مع شبه جزيرة القرم من خلال هذا الجسر، لتؤكد على فرض نفوذها بحكم الواقع والممارسة السياسية وحماية مصالحها الاستراتيجية في هذه المنطقة في ضوء خبرتها التاريخية للتعامل الدولي معها.
فعلى مدى التاريخ كانت القرم تعتبر ملتقى للمصالح الاستراتيجية لدول عدة، في مقدمتها روسيا وتركيا، والدول الأوروبية الكبرى. ودخلت إمارة القرم تحت السيادة الروسية عام 1783، في زمن حكم الإمبراطورة كاثرينا الثانية بعد انتصار روسيا على الدولة العثمانية.
وفيما بعد أصبحت شبه الجزيرة مسرحا لمعارك شرسة في كل من الحرب الشرقية (1853-1856)، التي خاضتها روسيا ضد تحالف بمشاركة كل من تركيا وبريطانيا وفرنسا ومملكة سردينيا، والحرب العالمية الثانية (1941-1945)، وكانت مدينة سيفاستوبول، المقر التاريخي لقواعد أسطول البحر الأسود الروسي، في كلتا الحربين.
ومنذ تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 وتقاسم أسطوله في البحر الأسود بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا ("وريثة" شبه جزيرة القرم بموجب قرار إداري بتسليمها إلى أوكرانيا السوفييتية اتخذ عام 1954 بمبادرة من نيكيتا خروشوف)، أصبحت شروط بقاء الأسطول الروسي في القرم موضوعا حساسا في العلاقات بين موسكو وكييف، وتم تحديد وضع الأسطول القانوني من خلال سلسلة من الاتفاقيات بين الجانبين.
وكانت القوى المناهضة لروسيا في أوكرانيا، ومنها زعماء "الثورة البرتقالية" الموالية للغرب (عام 2004)، قد طرحت مرارا مسألة إنهاء بقاء الأسطول الروسي في شبه الجزيرة. لكن الاتفاقية التي وقعها رئيسا البلدين في مدينة خاركوف الأوكرانية عام 2010 مددت مدة مرابطة الأسطول الروسي حتى عام 2042، مقابل دفع روسيا مبلغا مقداره 100 مليون دولار سنويا كأجرة لقواعدها البحرية في سيفاستوبول.
وجاء الانقلاب الأوكراني الذي أوصل للحكم في كييف قوى لا تخفي عداءها لروسيا ليهدد من جديد بقاء الأسطول الروسي في شبه الجزيرة، الأمر الذي أثار قلقا في موسكو وكان من أبرز دوافع دعمها لحراك شعب القرم ضد الانقلاب وتعبيره عن إرادته الانضمام إلى روسيا.
ولا شك أن قبول انضمام القرم إلى روسيا سمح لها بإزالة الخطر المحدق بوجودها العسكري في منطقة ذات أهمية استراتيجية بالغة بالنسبة لها، كما أنه رفع هيبتها كدولة تدرك مصالحها وتقدر على حمايتها.
علاوة على ذلك ينبع الإصرار الروسي على الإقدام على تلك الخطوة انطلاقاً من الأهمية الجيوسياسية لمنطقة شبه جزيرة القرم، إذ تشكل كل من (بيلاروسيا، أذربيجان، أرمينيا، مولدافيا، جورجيا وأوكرانيا) الفضاء الخلفي الحيوي لروسيا الاتحادية، اقتصاديا وعسكريا، فضلا عن أنها المدخل الأساسي للاتحاد الأوروبي نحو هذه البقعة الجغرافية التي تسمى "قلب العالم"، كون من يحكم شرق أوروبا يهيمن على منطقة القلب، ومن يحكم منطقة القلب(روسيا)، يسيطر على الجزيرة العالمية (أوراسيا)، ومن يحكم الجزيرة العالمية يسيطر على العالم كله"، وذلك حسب وصف مؤسس علم الجيوبوليتيك البريطاني “هارولد ماكيندر”، ما يفسر مدى ارتباط المصالح الحيوية الروسية بهذه الدول التي تتشارك نصفها حدودا جغرافية مع إيران، والباقي مع تركيا.
ولأن أوكرانيا، ليست مجرد جار لروسيا، بل هي جزء أساسي من معادلات السياسة الروسية، وأنه لا يمكن لروسيا بوتين أن تغض النظر أو تترك الاتحاد الأوروبي، يلعب في حديقته الخلفية، وعلى الغرب ومعه الأوكرانيون القوميون أن يعوا جيداً، أن مصير أوكرانيا هو أن تكون جسراً للتواصل بين الغرب وروسيا، وليس موقعاً للتجاذب والاستقطاب.
دلالات تدشين الجسر
يحمل تدشين روسيا لهذا الجسر عدة دلالات، أهمها: أن روسيا تحاول التأكيد على ثوابتها السياسية في علاقاتها مع دول هذه المنطقة، وإرساء أمر واقع على دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأوكرانيا التعايش معه بدون اعتراضات أو مناكفات سياسية على خلفية مواقفها السابقة، إذ أن ردود الفعل الدولية تباينت بعد القرار الروسي بضم القرم، إذ دانت القوى الغربية الأوروبية الأعضاء في حلف "الناتو" القرار الروسي، إضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية، التي وصفت الخطوة التي أقدمت عليها موسكو، بأنها "خرق للقانون الدولي وعدوان على دولة مستقلة"، و"يجب التراجع عنها". لكن في المقابل، تفهمت الصين التحرك الروسي وأعلنت أن "موقف الجانبين (الروسي والصيني) متطابق ومتفق".
ثانيها: إيصال رسالة سياسية روسية شديدة إلى واشنطن مفادها أن أمن البحر الأسود "خط أحمر"، وأن لا شيء يمكن أن يقف في وجه الحلم الروسي التاريخي بالسيطرة على موطئ قدم للوصول إلى "المياه الدافئة" في البحر المتوسط، عبر مضيق الدردنيل والبوسفور، وأن على الولايات المتحدة أن تكف عن تقديم المساعدات المالية والعينية الأمريكية لأوكرانيا، الحديقة الخلفية لروسيا.
يبقى القول إن مناكفات السياسة الدولية من قبل القوى الكبرى لا تفتأ تؤكد على مصالحها السياسية والاستراتيجية في مناطق جيوسياسية بالنسبة لها، في سياق صراعات النفوذ مع القوى الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في وقت يتم فيه كل شيء وفق حسابات التكلفة الاقتصادية ودراسات الجدوى والشراكة حتى في حالات الخسارة.
فيديو قد يعجبك: