كيف أثرت الحرب على نفسية السوريين؟
كتبت- هدى الشيمي:
تتردد سيدة سورية على عيادة طبيب نفسي بصورة شبه يومية، لتطلب منه العثور على حل لأبنائها، الذي أصيبوا بالاكتئاب، يصرخون دائما نتيجة للعنف الذي يشهدوه في منطقتهم بحرستا، وقالت للطبيب إن مستواهم ينخفض كثيرا في التعليم، ويصابوا بالكوابيس دائما، ولا تملك المال الكافي لكي تخرج وتترك البلد.
لا يعد هذا الموقف الوحيد الذي مرّ به الطبيب النفسي السوري أحمد العسيلي، الذي يقيم حاليا في العاصمة الفرنسية باريس، بعد اشتداد وطأة الحرب، ولكنه واجه العديد من المواقف شديدة القسوة منذ بدء الأزمة، التي دخلت عامها السادس، وفي هذا الحوار، يشرح كيف أثرت الثورة على المواطن السوري، وكيف غيرته، ليتحول من ثوري إلى لاجئ، ومن متمرد إلى ضحية حرب.
"لعنة الفراعنة"
يقول العسيلي، إن الأمور صارت على أهبة الاستعداد في سوريا، وتوقع الجميع بدء الثورة في أي وقت، بعد قيام الثورة المصرية، ورحيل النظام الحاكم، فكان السوريون يقولون دائما إن أي شيء يحدث في مصر، يحدث أمر مشابه له داخل بلادهم "كنا بنسميها لعنة الفراعنة"، في ذلك الوقت، كان العسيلي يقطن بمنقطة باب شرقي، في حي دمشق، ويتذكر أن التجمعات لم تكن واحدة، بل كانت عبارة عن مجموعات متفرقة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، لا يعرف المشتركون فيها بعضهم البعض.
عندما اشتدت حدة الثورة، تسببت الاحتجاجات بنوع من الصدمة في المجتمع السوري، وذلك بحسب العسيلي، لأن المواطنين أصيبوا بحالة من الدهشة عندما رأوا أفراد الأمن والشرطة يقتلون الثوريين والمتمردين في الشوارع، فتساءلوا "كيف يعتدي الأمن على المواطنين بهذه الطريقة؟!"
في مستشفى الطب النفسي في دوما، كان العسيلي يمارس مهامه الطبية، ولقوة العلاقات بين دوما ودرعا، بدأت المظاهرات تخرج من دوما، تأييدا للمظاهرات في المنطقة الأخرى، لتجتاح الحمى باقي المناطق، ثم بدأت احتجاجات في حمص، وقامت في مناطق معينة بالشام، ولكن عملية الحشد في البداية افتقرت للتنسيق، فحاول المواطنون تفادي هذه المشكلة، وبدأوا مرحلة جديدة في الثورة السورية، تقوم على التنسيق، وانضم العسيلي لأحد الجماعات التنسيقية، لكنه لم يستمر فيها كثيرا.
بعد فترة، اعتقلت السلطات الطبيب السوري، لمدة أيام محدودة، وبحسب التحقيق، علم أن سبب اعتقاله كان توقيعه على عريضة لرفع قانون الطوارئ، وبعد خروجه، لاحظ أن المواطنين يكثرون من الاجتماع معا، وينشئون مجموعات أكثر، فشارك في تأسيس "جماعة معا من أجل سوريا حرية ديموقراطية"، التي وقع عليها عدد من السوريين، والفنانين، ووصل عدد الموقعين عليها إلى أكثر من 206 شخص، يطالبون بإيقاف الاعتقالات العشوائية، ورفع قانون الطوارئ، ولكن كل تلك الجهود لم تؤثر على ارتفاع نسبة العنف.
حرستا:
في شهر مايو 2011، انتقل العسيلي إلى منطقة حراستا، أحد مراكز الحراك في سوريا، ومع اشتداد حدة المظاهرات، لاحظ إن الخوف داخل المواطنين يقل تدريجيا، وكاد أن يتلاشى، فتحدث مع العديد من زملائه للبحث عن أسباب اندثار هذا الخوف، ووجدوا أن السوريين كانوا معتادين على الخروج في المظاهرات مجبرين، ومكرهين، لأن الديكتاتورية في بلادهم، قاسية تعتمد على تأليه النظام والأسرة الحاكمة، وكانت الثورة المرة الأولى التي يخرجه فيها المواطنين إلى الشوارع برغبتهم، وشك الطبيب وزملائه في إدمان المواطنين للأدرنالين، لأنهم وجدوا في الثوار والمتظاهرين فرحة غير طبيعية، بنزولهم الشوارع، "كنا بنحس إننا نتلمس وجودنا، لأنه ما في سوري لم يهتف بحياة النظام، أقل من 100 مرة".
كطبيب نفسي، يرى العسيلي، أن "العدوى النفسية لا تقل أبدا عن العدوى الجسدية، فالبطولة والثورية عدوى أيضا، ففي أحد المشاهد التي راها بعينيه، لم يتوقف مجموعة من الشباب عن هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام"، أثناء عملية اعتقالهم، وأخذهم إلى السجن، فهذا المشهد كان كفيلا بإثارة حماس الجميع، ودعوتهم للاستمرار".
زيادة العنف، وانتشار مشاهد الموت في الشارع، كان من بين الأسباب الرئيسية، التي يرى العسيلي إنها كسرت حاجز الخوف، ويتذكر في أحد المواقف كان متجه إلى محل عمله، في سيارة أجرة "تاكسي"، وفي الطريق تحدث مع السائق عن أحوال البلاد، وعن انشاء دستور جديد، وكان الحوار هادئا مسالما، "كان في قتل كتير بالشوارع"، وفجأة سمعوا أصوات رصاص، ورأوا غبارا، وانفجارا، فعاد السائق إلى الخلف بأقصى سرعة، وتغيرت طريقة الحوار كثيرا، فانفعل الرجل كثيرا، وظل يردد "بشار ما بيروح إلا بالقوة".
رواندا والبوسنة والهرسك:
وضعت الأزمة السوريين في زاوية ضيقة، وكل انسان فُرض عليه مجموعة من الخيارات شديدة الصعوبة، فشعر العسيلي بالعجز، خاصة لعدم امتلاكه لخبرة التعامل مع مرضى ظروف كتلك، فحاول اكتساب خبرة على الأقل نظرية، وبحث عن التجارب التي أجريت في رواندا، والبوسنة والهرسك، أثناء الحروب.
ومن بين التجارب القاسية التي يتذكرها الطبيب، كانت مواقف لأشخاص وضعوا بتلك الظروف عنوة، فمثلا ذلك الشرطي من الطائفة العلوية، الراقي، والمميز، على حد وصفه، حصل على أمر بالانتقال إلى أحد المناطق، التي اقتحمها الجيش، في عام 2012، وعلى الرغم من خوفه الشديد من الذهاب إلى المنطقة التي تحولت إلى ثكنة عسكرية، اضطر لإطاعة الأوامر، وبعدما انتقل إلى هناك، انسحب الجيش، وترك الشرطة في مواجهة الأهالي، فهجم عليهم الأهالي وضربوهم بطريقة مبرحة.
بعد تسعة أيام التقاه الطبيب، وكان الفرق بين اللقاء الأول والثاني كبير، فكانت اثار الضرب واضحة على الرجل، وهناك الكثير من العلامات على جسده، ومقابل ذلك أعطته الدولة تعويض مادي حوالي 900 ليرة، أي ما يعادل 14 دولار، واجازة 15 يوم، حتى يرجع للخدمة، ويلتحق بمنطقة أخرى أكثر اشتعالا، علم ذلك الشرطي إن جسده سيشفى، ولكن من الناحية النفسية، تأكد إنه لن ينسَ هذه التجربة أبدا.
"العنف كان كتير رهيب" يقول العسيلي، ويستشهد بموقف حدث لزميل له، طبيب نفسي أيضا، كان على الحياد، لا يميل تجاه أي كفة، ونتيجة لوجوده في مكان خاطئ، اُعتقل لمدة شهرين، دون أن يكلف الأمن نفسه لمعرفة أي شيء عن توجهات ذلك الرجل الخمسيني.
شعر العسيلي بعدم جدوى العمل السياسي، منذ بداية أزمة اللجوء، والنزوح، ورأى أن هناك أشياء كثيرة خاطئة تحدث، فقرر ترك سوريا، والذهاب للإسكندرية، لأسبوع أو اثنين، كفترة راحة، ولكنه فوجئ خلال هذه الفترة، بأن الحكومة شنت حملة اعتقالات شملة اصدقائه كلهم.
"انهاك نفسي"
في سوريا كانت أغلب المشاكل التي واجهها العسيلي، والشكاوي متعلقة بتأخر الأطفال في المدارس، واصابتهم بالكوابيس، والتبول للاإرادي، وبعد بدء فترة النزوح، تمثلت المشاكل، في عدم تأقلم الأطفال، واحساسهم بعدم وجود مستقبل لهم، وفي هذه حاول عدة أشخاص القيام بأنشطة موجهة للأطفال في لبنان، وتركيا والأردن، من بينهم نشاط الممثلة السورية لويز عبد الكريم، لتعليم الأطفال "السايكو دراما".
أصاب الصراع الطاحن نفسية السوريين بالإنهاك الشديد، بجانب وصفهم باللاجئين، انتشرت صور لخيمات اللاجئين في تركيا، فأصبحوا يعطوا لأنفسهم مبررات، ويخبروا انفسهم إن ذهابهم إلى أوروبا سيكون فترة سياحة، أو إقامة عمل، ثم يعودوا إلى بلادهم بعد تحسن الأوضاع، ومع مرور الوقت، وزيادة العنف، بدأ السوريون في عملية البحث عن المزيد من المبررات لمساعدتهم على تقبل الفكرة.
"حتى النظام في الفترات الأولى كان رافض فكرة وجود لاجئين سوريين"، يقول العسيلي، إن الحكومة السورية أكدت في وسائل الإعلام أن السوريين المتواجدين في تركيا، ذهبوا لزيارة اقاربهم وسيعودون بعد فترة.
من خلال احتكاكه مع السوريين، تأكد من رفضهم التام للفكرة اللجوء، وأن يقال عليهم لاجئين، لذلك ينشر الكثير منهم صور ومعلومات عن استقبال السوريين للاجئين اليونانيين خلال فترات الحرب، اثناء محاولاتهم لتقبل الأمر الواقع.
فيديو قد يعجبك: