إعلان

«في قلبي رضا».. وطأة الغياب

د. ياسر ثابت

«في قلبي رضا».. وطأة الغياب

د. ياسر ثابت
06:58 م السبت 02 مارس 2024

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول


«أرهبُ الموت، ليس موتي أنا ولكن موت مَن أحبُّهم ولا أتصور الحياة طعمًا بدونهم. كنتُ في الحادية عشرة من عمري -في مثل عمرك تقريبًا وقت رحيل أبيك- عندما لقنتني الحياة درسَ الموت الأول وكيف أنه يأتي فجأة حين لا نتوقعه ودون أن نستعد له فيسلب إحساسَ الأمان مع مَن يخطفه وسطنا» (ص 22).
تُلخِّصُ العبارة أعلاه جوهرَ فلسفة هالة فودة في عملها الأخاذ «في قلبي رضا» (دار العين، 2024)، وتمثلُ دافعها الأساسي لأن تخط قصة حنين لا تنتهي من الابنة إلى أبيها الراحل اللواء الراحل محمد رضا فودة. سيرة مدهشة عكفت المؤلفة على كتابتها على مدار عامين، لتصدر في النهاية بين دفتي كتاب يقع في نحو 300 صفحة من القطع المتوسط.
بأسلوبٍ من أبرز سماته التكثيف والجُمل القصيرة الدالة، تقول الساردة العليمة:
«احترفتُ ارتداء الأقنعة، أحجبُ بها ضعفي، وحزني الذي أصبح ملازمًا لي، وسكوتي على أمورٍ كثيرة قبلتها على مضض، ووحدتي التي تأقلمتُ عليها فصارت جليستي الدائمة وإن أحاط بي الكثيرون. مع طلعة شمس كل يوم جديد، كنتُ أرتدي القناع تلو الآخر، أُحكِمه على وجهي وأردد بصوتٍ خفيض لا أكاد أسمعه: «أنا قويَّة، أنا سعيدة، أنا بخير»، ثم أطبع ابتسامتي فوق الأقنعة وأُقنِع نفسي أنني أصبحت قادرة على مواجهة ذلك العالم الذي لن أسمح له برؤية ما أحاول جاهدةً إخفاءه وما لا أقر به من ضعف حتى لنفسي. أحتمي وراء الأقنعة، أتوارى خلفها حتى نسيتُ ملامحَ وجهي الحقيقي الذي لم أعُد أراه في المرآة» (ص 31).
تكتشف أن «عبء الزيف كان أثقل من مواجهة الحقيقة التي حاولتُ طويلًا الهروب منها. قد تكون الحقيقة مؤلمة أحيانًا، لكن الهرب منها أكثر إيلامًا» (ص 32).
يُعدُّ الكتاب رحلةً تقوم خلالها الكاتبة بالبحث عن التصالح مع ذاتها وإبقاء «رضا» على قيد الحياة والذِّكْرى، مدفوعةً بالحنين وشعور الافتقاد. وتعتمد الكاتبة في توثيقها للأحداث التاريخية والحربية على ما تركه «رضا» مُدوَّنًا بخط يده من تفاصيل عن تلك الأحداث وأرشيف الصور الخاص به .
إهداء الكتاب يُغني عن الشرح:
«هذا كتابُك.. أكتبُ عنك ولك.. أكتبُ لأستخضرَ حلو أيامك وطيبَ ذكراك.. ربما أتخففُ من وطأة غيابك ووحشة أيامٍ ثقيلة لا تكاد تمر بدونك.. أكتبُ لأبوحَ بما أعدْ أستطيع كتمانه.. لأُزيحَ عن صدري أشباح الماضي الجاثم على أيامي.. لعل الكتابة تخففُ مرارة شوقي إليك ولعلَّ عطر سيرتك يُزكِّي لأوقاتي» (ص 7).
من الجائز القول إن «في قلبي رضا» ليست روايةً بالمعنى المتعارف عليه، ولكن هذا النص بكل ما يحويه من عذوبةٍ وإنسانية ودفء عائلي، يغرس في نفس قارئه شعورًا عميقًا بالألفة والوداد.
نتابع عبر صفحات الكتاب قصة «محمد رضا فودة» الذي غَيَّرَ قيام ثورة يوليو مجرى حياته ، قبل أن يشارك في كل الحروب ابتداءً من 1956 وحتى أكتوبر 1973 ، ثم مسيرته في الحياة حتى رحيله في 2001.
بعناية وتأنٍ، تلتقط الساردة التفاصيل لتنسج منها عملًا مليئًا بالشجن.
«عندما سألتُ جدتي ذات مرة لماذا اختارت لك هذا الاسم، ابتسمت وأجابتني أنها كانت تتابع على صفحات الجريدة أخبار ذلك الأمير الشاب الذي يحمل الاسم ذاته، وأن مولدك تزامن مع عودته من رحلة تعليمية في سويسرا ليلتحق بالكلية الحربية في بلاده، قبل أن يصبح وليًا للعهد ويتزوج من الأميرة فوزية في حفل زفاف أسطوري تناقلته الصحف مع صور تبدو فيها الأميرة مثل البدر المكتمل، فيتمَّنت جدتي بإطلالته ومستقبله الواعد لعلها ترى وليدها يومًا في مثل بهائه، ومنحتك اسمه» (ص 14).
لم يكن محمد رضا أول فرحة والديه ولا أكبر الأولاد الذكور، فقد كان ترتيبه الثالث من بين خمسة أبناء، لكنه كان الوتد الذي يستند عليه الأكبر والأصغر. «كان طفلًا استثنائيًا في جاذبيته وطلاقته في الحديث وحضوره الطاغي أينما حلَّ، وفي البهجة التي كانت تشعُّ من حركاته ودُعاباته التي لا تنتهي» (ص 15).
تجيد هالة فودة رسم الملامح الشخصية والنفسية لأعمامها وعماتها، كأن تقول مثلًا:
«أما لطفي، الابن الثاني، فقد كان هادئًا مكتفيًا بمتابعة الحياة عن بُعد مثلما كان يتابع المارة من وراء شيشي نافذة غرفته دون أن يجرؤ على فتحه. كان قليل الكلام، لا يكاد أحد يشعر بوجوده في البيت، حتى إنهم كانوا أحيانًا يبحثون عنه ليعلموا إن كان ما زال بغرفته أم خرج» (ص 16).
ولا بدَّ أن نسجِّل إشادة بقدرتها الفائقة على وصف الأشبياء والأماكن بل والألوان أيضًا؛ إذ نقرأ على -سبيل المثال لا الحصر- ما يلي:
«استيقظتْ فهيمة مبكرًا كعادتها. صلّت الفجر بدأت يومها بترتيب المنزل وفتح الشرفات لتغمر الشمس غرفة المعيشة وطقم الجلوسالاسيوطي ذا الأذرع الخشبية والقماش الفاتح المغطى ببياضات زاهية، كنست السجادة البخاري ذات اللون النبيذي الأدكن، ونفضت التراب عن نافذة المنوَر وجهاز الراديو الكبير الموضوع على منضدة جانبية وساعة الحائط المستديرة المصنوعة من طبق صيني أبيض ذي رسومات زرقاء يدوية. توقفت برهة لتتأمل صورة توفيق الكبيرة المعلقة في إطار بُنِّيعلى الحائط الذي يعلو الأريكة.
«كانت صورة نصفية ينظر فيها توفيق إلى اليسار قليلًا، فتبدو استدارة وجهه الأبيض وجبهته العريضة وعيناه العسليتان وشعره البُنِّي الناعم المُصفَّف بعناية إلى الوراء، وابتسامة خفيفة على شفتيه المرسومتين يعلوهما شارب قصير يحددهما ولا يطغى عليهما ويدنوهما ذقن مربع تتوسطه نغزة. كان يرتدي بدلة دكناء وقميصًا أبيض ورابطة عنق على شكل بابيون بمربعات صغيرة ومنديل يبرز من جيب السترة كم تفتقده!» (ص 24).
هل لاحظتم دقة التفاصيل ومدى الاعتناء بالألوان؟
ربما يبدو هذا منطقيًا حين نعرف أن هالة فودة أستاذة الأدب الفرنسي في جامعة عين شمس لأكثر من 30 عامًا.
«يقولون إن الكتابة مُنجِّية. أعرفُ ذلك من خلال عملي وأبحاثي عن كتابات السيرة الذاتية للأدباء الفرنسيين. طالما استهواني ذلك النوع من الكتابة الأدبية الحميمة، فكفت على قراءته ودراسته ثم تدريسه قبل أن يرادوني حُلم الكتابة. كتابتي أنا التي ظلت لسنواتٍ حلمي ومشروع المؤجل. أخشاه وأرجئه فما يلبث أن يلح عليَّ ويراودني من جديد. كنتُ أعلمُ أن ما سأكتبه سيكون قريبًا من حياتي لدرجة لم أقوَ عليها. في البوح، شجاعة وإصرار على المواجهة وهزيمة لكل الأشباح التي تطاردني وتحجب عني السكينة. وفي البوح، ضعفٌ واستسلام وتسليم باستحالة النسيان وحتمية التذكُّر. وفي البوح، تعرٍّ وجرأة وخرق لكل خصوصية. أنى لي أن أحلَّ بها تلك المُعضلة؟» (ص 34)
في فن التفاصيل، تحكي:
«لم أكنْ أُكثِرُ من استخدام مستحضرات التجميل، أضعُ مسحةً خفيفة لا تكاد تُرى من حُمرة الخدود وأكتفي بقلم من الكحل البُنِّي يزيد عينيَّ اتساعًا، متصالحةً مع حجم أنفي الذي يميل للكِبَر، فقد كان ذلك الأنف من سمات العائلة، ورثته منك، وتوارثته أنت من جدتي فهيمة» (ص 33).
تمتد الأحداث في خط ثنائيّ ما بين قصة «رضا» وابنته «هالة»، زمنه وزمنها وتقاطعاتهما، فترصد الكاتبة ملامح الحياة في مصر منذ النصف الثاني من القرن العشرين، من خلال أسرتين مصريتين من الطبقة المتوسطة وتفاعلهما مع الأحداث التاريخية وتطوراتها الاجتماعية والسياسية هما أسرة «فهيمة» الأم و«شوشو» الزوجة.
الحنين طوفان.
«في كل مرة يُعرَض فيها «غزل البنات» على شاشة التليفزيون، أتذكر تلك القصة التي حكيتها لي عن تأثرك بالفيلم في صباك، وكيف كانت دموع نجيب الريحاني حقيقية ذرفها بإحساس صادق وكيف كانت ليلى مراد تدهشك وهي تصدح بذلك الصوت الرخيم بسلاسة وعذوبة والابتسامة لا تفارق وجهها الجميل فلاقت نجاحًا كبيرًا» (ص28).
تتابع الابنة الساردة:
«كنتُ لا أملُّ من مشاهدة الفيلم معك، أحفظ حواره وتعليقاتك عليه وتُطربني أغنية ليلى مراد «ماليش أمل في الدنيا دي» وأتخيل وجهك الشاب المبهور لذي تنعكس عليه خيالات الشاشة الفضية، فأراني سائرةً إلى جوارك في شوارع وسط البلد الذي كنت تحفظها من كثرة السير فيها، وأنت تُعلِّق بحماسة على أحداث الفيلم، ثم تأخذني معك إلى «الإكسلسيور» مثلما ظللت تفعل وأنا طفلة، تسألني: «تاكلي إيه؟» فأجيبك بلا تردد: «2مخ و2 كفتة و2 كبدة»! فتُمازحني ضاحكًا: «هتقدري تخلصيهم؟!» أحيانًا كنتُ أنام قبل أن تأتي السندوتشات، أنام مطمئنةً وأنا ممسكة بيدك» (ص 28-29).
شعورٌ مماثل تستعيده الساردة حين تتذكر تأرجح مشاعر الأب بين فرحه لرؤية ابنته عروسًا لـ«هشام» ابن عمتها وما بين حزن دفين جاهد إخفائه لفقدانه الوشيك لابنته الوحيدة. وهي تربط بذكاء بين حال الأب وكلمات أغنية شارل أزنافور «إلى ابنتي»، التي تبدأ بالقول:
«أعلمُ أن يومًا سيأتي لأن الحياة تتطلب ذلك
هذا اليوم الذي أتحسبُ له عندما تغادريننا» (ص 264).
تتساءل هالة فودة في عبارةٍ حارقة:
«هل كان حُبي لك يحجب أي حُبٍّ دونه؟ هل كانت علاقتنا بانطباعها في خيالي على صورتها تلك تمنعني من الانصهار في أي علاقةٍ أخرى؟» (ص 267).
الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب الممتع مؤلمة، وصولًا إلى الرحيل الموجع للأب يوم الجمعة الموافق 22 يونيو 2001.
«كان عليَّ بعد ذلك اعتياد غيابك، وسخافة الأيام التي خلت من وجودك، ومواجهةالحياة وظهري مقصوم لا رأبَ له. أسترجعُ قصتنا وأستلذُ تفاصيلها وأوبِّخ نفسي على كل لحظةٍ حُرمتُها من قضائها معك» (ص 283).
وهي في هذا الكتاب الحميم، تقف عند عدة لحظات فراق لتبكي بحرقة فكرة الوداع، كما فعلت في حديثها عن رحيل الجد «كامل»:
«لم يخبرني أحد بشيء. ربما ظنوا أن الصمتَ القاتل أخفُّ وطأةً من الحديث والشرح. في ذلك اليوم، الثامن عشر من مارس 1980، تعلّمتُ أن الحياة ليست بحاجة للاستئذان قبل أن تؤلمنا، وأن الحزن لا يطرق الباب أبدًا بل يقتحمُ أرواحَنا وينتزعُ بهجتنا دون اعتذار أو سابق إنذار. أربكني ذلك الدرس القاسي الذي لم أستعد له فتباين رد فعلي بعد ذلك تجاه مَن كنت أحبُّهم. أحيانًا كنتُ أرغب في الاستحواذ عليهم، ربما مكنني ذلك من حجبهم عن الموت وحمايتهم. وأحيانًا أخرى كنت أتنصلُ من حُبي لهم وأنكر تشبثي الدفين بهم وكأنني أريدُ أن أقنعَ الموتَ أنهم لا يمثلون لي شيئًا ذا قيمة في حياتي، لعله يتركهم لي فلا يعاقبني بالحرمان منهم» (ص 23).
لا بأس، إذن، أن نتذكر مع هالة فودة مقولة جلال الدين الرومي: «لا تجزعْ من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى قلبك».

إعلان