إعلان

حاجات قديمة للبيع

د. ياسر ثابت

حاجات قديمة للبيع

د. ياسر ثابت
08:49 م الجمعة 09 فبراير 2024

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول


«حاجات قديمة للبيع: حكايات المهن المصرية المندثرة» (دار مزيج، 2024) هو عنوان الكتاب الأول للكاتبة منى عبد الوهاب. بأسلوب سلس وإخراج فني جميل مدعم بالرسومات الجذابة، تحاول المؤلفة في كتابها صغير الحجم (130 صفحة) توثيق الكثير من الحِرف والمهن التي اختفى الكثير منها في المدن والبلدات المصرية ولفت الانتباه إلى إرث ثقافي ضاع جزء كبير منه مع الحداثة وتطور المجتمعات.

الشاهد أن الكتب تزخر بتاريخ الأمراء والرؤساء والسلاطين وتراجم العلماء والمبدعين وقصص ساحرة عن فرائد أزمانهم، وتجد فيها تاريخ الاستعباد والاحتلال والتحرير، ومرويات المستعمر والمستشرق والمستعرب، وقلما تجد من يكتب تاريخ الشارع وأهله العاديين ومهنهم العادية؛ ولذا قررت المؤلفة خوض تجربة البحث عن المهمشين وأصحاب المهن المغمورين في مصر.

من هنا يبدو هذا الكتاب محاولة لتوثيق تاريخ بعض هذه المهن، ودعوة لتسليط الضوء عما اندثر منها وما يلفظ أنفاسه الأخيرة، وما يجاهد للبقاء. وفي ثنايا هذه المحاولة سعي إلى كتابة تاريخ موازٍ للشارع المصري، يمكن فيه للشارع أن يتحدَّث عن نفسه وقصصه «العادية».

في الكتاب، تبحر بنا المؤلفة في تاريخ مهن مختلفة، مثل: البوسطجي، والسقا، والقرداتي، والأراجوز، وسمكري بابور الجاز، والمسحراتي، والطرابيشي، وبائع عرق السوس، والحاوي، وعازف البيانولا، والمعددة.

عن «البوسطجي»، تقول المؤلفة:

«يُرجِع البعض مهنة «البوسطجي» لعصر الفراعنة، من هنا يقول الباحث عبد الوهاب شاكر: «عرفت مصر البريد منذ عهد الفراعنة، حيث نظَّموا نقل البريد خارجيًا وداخليًا، وكانوا يستخدمون سعاةً يسيرون على الأقدام يتبعون ضفتي النيل في ذهابهم وإيابهم داخل البلاد، ويسلكون إلى الخارج الطرق التي تسلكها القوافل والجيوش، وأول وثيقة جاء بها ذكر «البريد» يرجع تاريخها إلى عهد الأسرة الثانية عشرة، وهي وصية كاتب لوالده يُطلعه فيها على أهمية صناعة الكتابة والمستقبل المجيد الذي ينتظره في وظائف الحكومة». وقال في رسالته: «أما ساعي البريد فإنه يحمل أثقالًا فادحة، ويكتب وصيته قبل أن ينطلق في مهمته توقعًا لما قد يصيبه من الوحوش». ويقول: إن هذا جاء في رسالة منقوشة على ورق البردي باللغة الهيروغليفية ووثقت هذا الكلام «الجزيرة نت» في مقالٍ منشور بتاريخ 4 مارس لعام 2020، وغيرها من مواقع الأخبار الشهيرة. اعتاد المصري القديم على نقل الرسائل داخل البلاد وخارجها سيرًا على الأقدام باجتياز الطرق التي تسلكها القوافل» (ص 15).

اختلف المؤرخون حول تسمية «البوسطة» أو «البريد» بهذا الاسم. فهناك ثلاثة احتمالات، الأول: أن أصلها لاتيني كما جاء في كتاب «تاريخ البريد في بر مصر» للكاتب والباحث عبد الوهاب شاكر، ورأيه أن كلمة «بوستة» المستخدمة في العامية المصرية مأخوذة من Postictal stations ومعناها «محطات البريد» التي أقامها الرومان بين كل مسافة وأخرى. الرأي الثاني: أن أصلها فارسي، ومأخوذة من «بريده دم» أو «بريد دم» ومعناها «مقصوص الذنب» وهو اسم يُطلق على البغال والخيل التي تُنقل عليها المراسيل لتمييزها عن غيرها؛ لأن من عادة الفرس أن يقصروا أذنابها، ورفض هذا الرأي آذرتاش آذرنو الباحث والمؤرخ الإيراني، أستاذ الأدب واللغة العربية بجامعة طهران. أما الرأي الثالث والأخير: إنها عربية ومأخوذة من «البرد» أو «أبرد» بمعنى «أرسل» والاسم «بريد» والجمع «بُرُد»، فيُقال: «أبرد بريدًا» أي «أرسل مرسولًا» (ص 16).

في عهد البطالمة كان البريد ينقسم إلى، البريد السريع، وذلك لنقل بريد الملك ووزيره وموظفي الدولة وكان يُستخدم في نقله الجياد السريعة، والبريد البطيء لنقل البريد بين الموظفين في داخل البلاد. ولذلك فإن نظام البريد المصري في عصر البطالمة، كان أكثر انضباطًا وكان هناك مكاتب بريد يعمل بها سعاة، بنظام ساعات محددة، وهو النظام الذي تم اتباعه في نقل رسائل الملك ووزير المالية وكبار الموظفين، فكانت الرسائل تستغرق أربعة أيام فقط لتنقل رسائل من الفيوم إلى الإسكندرية، حيث كان يستخدم سعادة البريد السريع، والذي ظهر في تلك الفترة، الخيول، لنقل رسائلهم وكان الخيول إلزامًا على أصحاب الأقطاع أن يعدوها لتكون صالحة لذلك، وكانوا يقدمونها بدون مقابل. استمر البريد في مصر بعد الفتح الروماني وفق النظام نفسه، وإن لم يكن بالنظام الدقيق الذي وضعه البطالمة حتى فتح العرب لمصر.

استخدم العرب البريد في نقل أخبار الدولة والتجسس على الولاة ونقل الأخبار إلى الخليفة وساروا على نفس النظام الذي وضعه الفرس والبطالمة من قبل. كان أول ديوان للبريد بشكل رسمي في العهد الأموي على يد الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وهو أول من نظَّم البريد في الإسلام وكان يستخدم في نقل البريد السريع طرقًا معينة مقسمة إلى محطات متساوية لتغيير الخيول والتزود بالمؤن. طوّر الخليفة عبد الملك بن مروان نظام البريد، وكان مُهمة مسؤول الديوان توصيل المكاتبات بين عاصمة الخلافة والولايات التابعة لها، ثم تطورت الأمور مع اتساع الدولة، وأصبحت تختص بنقل الأخبار والحوادث.

في الدولة الفاطمية، ازداد الاهتمام بالبريد، وصار أصحابه يُعرفون بأصحاب الأخبار، وعمل في ديوان البريد أهل العقل والحكمة. استخدم الفاطميون أيضًا الحمام الزاجل في المراسلات وبالغوا في الاهتمام به وأفردوا له ديوانًا وجرائد بأنساب الحمام.

في العصر المملوكي، ألغي بريد الخلافة، وأنشئ بريد خاص كان ينقله السعاة ويستخدمون الجمال في نقله، كما استخدموا البريد بواسطة الخيل وأنشأوا إصطبلًا خاص يحمل اسم إصطبل خيل البريد، وكان يستخدم ذلك النوع بأمر خاص من السلطان. مع دخول الحملة الفرنسية مصر كان هناك فَرسان للبريد يتغيّرون كل مسافة محددة الطول، وكان قائد الحملة يهتم بتنظيم ذلك بنفسه ويقوم بتعيين مسؤول لنقل البريد في كل منطقة.

التطور الكبير للبريد المصري حدث في عهد محمد علي باشا؛ إذ يعد أول من فكَّر في إنشاء البريد لنقل الرسائل الرسمية داخل ولاية مصر، وكانت نواة تأسيس أول بريد رسمي في البلاد، حيث أعد المحطات وأصلح الطرق لسعاة البريد، وحين تعرّض بعضهم للاعتداء على أيدي الفلاحين، أمر محمد علي بتأديبهم. استخدم الباشا الأساطيل والجيوش والسفن لمعرفة أخبار حملاته الحربية، وكانت القاهرة هي المركز الرئيس للمراسلات.

اهتم إبراهيم باشا، بالبريد الحربي، وأراد أن يخدم المصريين حينئذ فأمر بإعداد مشروع خاص، لإنشاء بريد عام ينقل رسائل الجمهور، ما أدى لاستياء بريطانيا من ذلك المشروع. بدا التطور الكبير الذي وضعه إبراهيم باشا نقلة حضارية، حتى أن الإدارة في ذلك الوقت استغنت عن استخدام الحمام الزاجل نظرًا لقيام نظام جديد كفء قادر على نقل المراسلات بين القاهرة ومقر القيادة العسكرية في آسيا الصغرى خلال عشرة أيام، وهو زمن قياسي بمعايير ذلك الزمان (ص 18).

بدأت مؤسسة البريد المصرية الحديثة عندما أنشأ إيطالي في الإسكندرية يُدعى كارلو ميراتي إدارة بريدية على ذمته لتصدير واستلام الخطابات المتبادلة مع البلدان الأجنبية، وكان يتولى تصدير وتوزيع الرسائل نظير أجر معتدل. كما نقل الرسائل بين القاهرة والإسكندرية من مكتبه الكائن بميدان القناصل الذي يُدعى الآن ميدان سانت كاترين. بعد وفاته عام 1842 خلفه ابن أخته ويدعى تيتو كيني، الذي شعر بأهمية المشروع وأشرك معه فيه صديقه موتسي، ونهض بالمشروع حتى وطده على أقوى الأسس وأطلق عليه اسم «البوسطة الأوروبية». وقد احتلت هذه البوسطة مكانة مهمة وظلت تباشر نقل وتوزيع مراسلات الحكومة والأفراد، وكان الجمهور عظيم الثقة بالبوسطة الأوروبية.

كان الخديو إسماعيل أول من سعى إلى تمصير البريد؛ لأنّ الشركة كانت مملوكة لإيطاليين، ويديرها جياكومي موتسي، وكان عدد مكاتبها لا يتعدى 19 مكتبًا في أنحاء الجمهورية، وكانت تسمّى البوسطة الأوروبية، وتهدف إلى تقديم خدمة مراسلات الجاليات الأجنبية في مصر داخل البلاد وخارجها منذ عام 1840.

أمر الخديو إسماعيل بشراء الشركة، وأبقى على مديرها الإيطالي لإدارتها، بعدما أعطاه لقب رتبة البكوية، ليتضاعف عدد مكاتب البريد إلى 28 مكتبًا، وفي 2 يناير 1865 نُقِلت ملكية البوسطة الأوروبية إلى الحكومة المصرية في إطار «البوسطة الخديوية» (ص 19)، ويعد هذا اليوم يومًا تاريخيًا للبريد المصري وعيدًا للبريد كل عام.

إعلان