لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"La Grande Librairie" .. أو كيف يقبل الجمهور على الثقافة "الجادة"؟

د.هشام عطية عبد المقصود

"La Grande Librairie" .. أو كيف يقبل الجمهور على الثقافة "الجادة"؟

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 17 فبراير 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


يمنحنا الإقبال الضخم للجمهور على معرض الكتاب فى دورته كل عام أساسا مهما يمكن الانطلاق منه دوما نحو غايات ثقافية ومجتمعية أوسع، أساس يتمثل في شغف الجمهور المصري بالقراءة والكتب، والسعي المصاحب لمتابعة الجديد مما تصدره دور النشر المصرية والعربية والدولية كل وفق اهتمامه وتفضيله، وتقول لنا المتابعات والعروض والقراءات لحجم مبيعات الكتب كل عام شيئا متنوع الدلالات ويفسره كل حسب رؤيته خاصة فيما يتعلق بطبيعة الكتب الأكثر اهتماما ورغبة في الاقتناء والقراءة من قبل الجمهور، وحيث مهما مثلت طبيعة هذه الكتب "الأكثر مبيعا" في وجهة نظر البعض من إشارات لهيمنة نمط ثقافي ما قد يشيرون له أحيانا بقدر من تقليل ارتباطا بما تعبر عنه بعض عناوين وموضوعات تلك الكتب الأعلى توزيعا والأكثر مبيعا، فهي تظل نسق اختيار حر غير مصنوع ولا مضطر يقوم به الجمهور، وهو سلوك يظل في عمومه محمودا – طالما هو ضمن منظومة الثقافة المصرية والعالمية فكرا وقيما - لما له من أثر كبير في تشجيع منظومة القراءة عامة وصناعة النشر وما يرتبط بهما من توافد أجيال جديدة لحيزهما، هي أجيال بحكم نشأتها على شاشات الهواتف الذكية لم تتربى على ثقافة التعامل الورقي وقراءة الكتب.
ويظل الأمل والجهد المطلوب هو في مجال كيف يمكن الانتقال بكل هذا الجمهور الكبير أو بعض فئاته الواسعة نحو مساحات متنوعة من القراءة تمنح لكل التصنيفات الثقافية مجالا وحضورا وأساسا اقتصاديا يتيح لها الاستمرار والنمو، وهنا تنشأ المبادرات الفردية والمؤسسية التي تضطلع بمسئولية يجدر أن يتم الدراسة والتخطيط لها، ويكون الإعلام مركزها ومجال تسويقها لتتعايش في رحابة تلك الكتب والأعمال الأكثر مبيعا مع الأعمال الثقافية الأخرى المتنوعة وأيضا النخبوية ذات الدور في بناء منظومة المعرفة وتشكيل الهوية وصناعة جسور الدمج المجتمعي، وهنا يأتي تميز برنامج "La Grande Librairie" والذي يمثل مبادرة لصناعة ثقافة جماهيرية واسعة المدى والأثر، والذي يذاع على قناة ""France 5 وتنقل بعضا من حلقاته قناة "TV5 Monde Orient" وكلاهما ضمن قنوات الخدمة العامة في فرنسا الموحهة للداخل والخارج أيضا ضمن مجالات ووسائط تأثير القوى الناعمة التي هى جزء مؤثر وحيوي فى صناعة المكانة والدور الدولي عالميا.
والبرنامج له ما يقرب من 15 موسما ويقدمه الآن أوجستين ترابينارد وذلك استمرارا لنهج مقدمه السابق وصاحب فكرته فرانسوا بوسنيل ليكتفي الأخير بالبقاء منتجًا لبرنامجه الذي كان صاحب مبادرته وأطلقه عام 2008، يتضمن البرنامج حيزا واسعا من ثقافة متوسعة الآفاق ومعبرة عن تنوعات الهوية القومية الفرنسية، ويقدم عددا من الكتاب والروائيين القدامى والجدد، كما يقدم تجربة فذة تتمثل في تقارير عن مكتبات صغيرة في أنحاء المدن الفرنسية ولقاءات مع مديريها حيث يرشحون للجمهور الكتب ويعرضون مزايا المكتبة ومتعة القراءة عبر تجليات طقوسها لدى المشاهير وعموم القراء، كما تجمع حلقة نقاش البرنامج منظومة متنوعة من مثقفين وكتاب مخضرمين وناشئين وأصحاب كتاب أول يلتقون جميعا حول فكرة أو موضوع يجمع كتاباتهم المعروضة في حلقة البرنامج، ويدير النقاش مذيع أعد وقرأ وتفرغ فيكون حضوره ثريا مضيفا، والأهم أن البرنامج في فقراته يتجول مصاحبا أحد هؤلاء الكتاب المشاهير في واحدة من المدارس في كل مرة، يختار مع الطلاب كتابا ويقرأ معهم، وبالطبع يكون كتابا منتقى له أهمية معاصرة أو تاريخية يعني ببناء الشخصية والهوية أو يدعم المساواة بين الجنسين يؤكد على رفض التمييز عامة، كما يقدم كتبا تتولى تعريف الطلاب بأجيال من الكتاب الفرنسيين وبعضا من تاريخ الأدب فضلا عن استضافة مؤلفين أجانب.
هكذا يتم ترويج وتقريب صناعة الثقافة الجادة و"الثقيلة" للجمهور العام باعتبارها أحد مقومات التطوير والتنمية المجتمعية، وحيث تشتبك مع الإشكالات الاجتماعية مبكرا فتكون الثقافة هنا حائط صد بالمعنى المجتمعي الشامل.
ويدل حجم متابعة واهتمام الجمهور الفرنسي العام والنخبوي معا كيف يمكن لبرنامج واحد بمبادرة فذة وبإعداد مبدع وبتقديم خبير متمرس أن يصنع أثرا وأن ويغير من حالة القراء والتعاطي الجماهيري مع منتجات الثقافة ويكون نافذة على طيف واسع من الكتب والموضوعات، وحيث يتيح أيضا مساحة تعريف وتواصل بين الجمهور والمؤلفين بشكل مباشر بما يزيد من معرفة الجمهور بأسماء المؤلفين الجدد ويصنع تواصلا مع كتاباتهم.
وحتى نفهم سياق عمل البرنامج وكيف يرتبط باستراتيجية ثقافية عامة، فإنه تم الإعلان في فرنسا عن جعل القراءة قضية وطنية عظمى خلال عامي 2021 و 2022، وذلك كمبادرة لتشجيع الشباب الفرنسي على القراءة وتضمن ذلك فكرة تشجيع التعبير عبر القراءة الشفاهية، ومن هنا تزامنا وارتباطا إبداعيا أطلق البرنامج مسابقة "أن نقرأ بصوت مسموع" من خلال عمل مشترك مع وزارة التربية الوطنية والشباب والرياضة في فرنسا، وتضمنت سفر فريق عمل البرنامج مع عدد من الكتاب متنوعي التجارب والرؤى إلى الجامعات والمدارس الثانوية في جميع أنحاء فرنسا للمناقشة من داخل القاعات والفصول وتم تسجيلها وبثها عبر تقرير دورى في البرنامج ترويجا وتشجيعا.
يؤكد هذا البرنامج على أن تربية الحس والذائقة الثقافية صناعة تنمو على مهل وبدأب وجهد وتبدأ مع النشء وتتوجه لكل الأجيال، وأنه عبر هذا المبارات الإبداعية وغيرها يمكن تفكيك ظواهر ثقافية لا يرضى عنها البعض، حيث ستكون المساحة متاحة للجميع طالما ظل هناك من يقرأون وويتواصل نمو قاعدتهم، دليل ذلك أن هناك زيادة في منظومة القراءة والشراء من المكتبات تبلغ ما يقرب من 10% كان البرنامج مسئولا عن الدور الأكبر فيها، وهنا تأتي كلمات دالة من منتج البرنامج ومقدمه السابق بوسنيل في حديثه لصحيفة "لو فيجارو": "هدفنا هو وضع الكتاب مرة أخرى في دائرة الضوء وأن يدخل مكتبات الجميع في عالم صارت تهيمن عليه شبكات التواصل الاجتماعي".

إعلان